صفحة جزء
ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا

استئناف ابتدائي كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعد ، وإنذار وتبشير ، سيق مساق التنويه بـ يوم الفصل الذي ابتدئ الكلام عليه من قوله : إن يوم الفصل كان ميقاتا والمقصود التنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثواب والعقاب ، وهو نتيجة أعمال الناس من يوم وجود الإنسان في الأرض .

فوصف اليوم بالحق يجوز أن يراد به الثابت الواقع كما في قوله تعالى : وإن الدين لواقع وقوله آنفا : إن يوم الفصل كان ميقاتا ، فيكون الحق بمعنى الثابت ، مثلما في قوله تعالى : واقترب الوعد الحق .

ويجوز أن يراد بالحق ما قابل الباطل ، أي : العدل وفصل القضاء فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي ; إذ الحق يقع فيه و ( اليوم ) ظرف له ، قال تعالى : يوم القيامة يفصل بينكم .

[ ص: 54 ] ويجوز أن يكون الحق بمعنى الحقيق بمسمى اليوم ; لأنه شاع إطلاق اسم اليوم على اليوم الذي يكون فيه نصر قبيلة على أخرى مثل : يوم حليمة ، ويوم بعاث . والمعنى : ذلك اليوم الذي يحق له أن يقال : يوم ، وليس كأيام انتصار الناس بعضهم على بعض في الدنيا فيكون كقوله تعالى : ذلك يوم التغابن ، فهو يوم انتقام الله من أعدائه الذين كفروا نعمته وأشركوا به عبيده في الإلهية ، ويكون وصف الحق بمثل المعنى الذي في قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ، أي : التلاوة الحقيقية باسم التلاوة وهي التلاوة بفهم معاني المتلو وأغراضه .

والإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى ( اليوم ) المتقدم في قوله : إن يوم الفصل كان ميقاتا . ومفاد اسم الإشارة في مثل هذا المقام التنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيوصف به بسبب ما سبق من حكاية شؤونه كما في قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم بعد قوله : هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله : وبالآخرة هم يوقنون فلأجل جميع ما وصف به يوم الفصل كان حقيقا بأن يوصف بأنه اليوم الحق وما تفرع عن ذلك من قوله : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا .

وتعريف ( اليوم ) باللام للدلالة على معنى الكمال ، أي : هو الأعظم من بين ما يعده الناس من أيام النصر للمنتصرين ; لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم ويعطى كل واحد منهم ما هو أهله من خير أو شر ، فكأن ما عداه من الأيام المشهورة في تاريخ البشر غير ثابت الوقوع .

وفرع عليه فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا بفاء الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق . والتقدير : فإذا علمتم ذلك كله فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه فليتخذه ، أي : فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم . والتقدير : مآبا فيه ، أي : في اليوم .

وهذا التفريع من أبدع الموعظة بالترغيب والترهيب عندما تسنح الفرصة للواعظ من تهيؤ النفوس لقبول الموعظة .

[ ص: 55 ] والاتخاذ : مبالغة في الأخذ ، أي : أخذ أخذا يشبه المطاوعة في التمكن ، فالتاء فيه ليست للمطاوعة الحقيقية بل هي مجاز وصارت بمنزلة الأصلية .

والاتخاذ : الاكتساب والجعل ، أي : ليقتن مكانا بأن يؤمن ويعمل صالحا لينال مكانا عند الله ; لأن المآب عنده لا يكون إلا خيرا .

فقوله : إلى ربه دل على أنه مآب خير ; لأن الله لا يرضى إلا بالخير .

والمآب يكون اسم مكان من آب ، إذا رجع ، فيطلق على المسكن ; لأن المرء يؤوب إلى مسكنه ، ويكون مصدرا ميميا وهو الأوب ، أي : الرجوع ، كقوله تعالى : إليه أدعو وإليه مآب ، أي : رجوعي ، أي : فليجعل أوبا مناسبا للقاء ربه ، أي : أوبا حسنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية