صفحة جزء
يقولون أإنا لمردودون في الحافرة إذا كنا عظاما نخرة .

استئناف ؛ إما ابتدائي بعد جملة القسم وجوابه ، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة .

وإما استئناف بياني ; لأن القسم وما بعده من الوعيد يثير سؤالا في نفس [ ص: 69 ] السامع عن الداعي لهذا القسم ، فأجيب بـ يقولون أإنا لمردودون في الحافرة ، أي : منكرون البعث ، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأن التحدث عن غير حاضر .

وضمير ( يقولون ) عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث .

والمساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم .

ويجوز أن يكون الكلام مسوقا إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف .

وحكي مقالهم بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه .

وللإشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا ، كقوله تعالى : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط .

وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى .

وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير ( يقولون ) بعائد إلى ( قلوب ) من قوله تعالى : قلوب يومئذ واجفة .

وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام ; إظهارا لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه . والمقصود : التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة .

وجعل الاستفهام التعجبي داخلا على جملة اسمية مؤكدة ب ( إن ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإفادة أنهم أتوا بما يفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به ، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلا عن تحقيقه والإيقان به .

والمردود : الشيء المرجع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورد ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقايل ، أي : لمرجعون إلى الحياة ، أي : إنا لمبعوثون من قبورنا .

[ ص: 70 ] والمراد بـ ( الحافرة ) : الحالة القديمة ، يعني : الحياة .

وإطلاقات ( الحافرة ) كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز ، والأظهر ما في الكشاف : يقال : رجع فلان إلى حافرته ، أي : في طريقه التي جاء فيها فحفرها ، أي : أثر فيها بمشيه فيها ، جعل أثر قدميه حفرا أي لأن قدميه جعلتا فيها أثرا مثل الحفر ، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر ، وجوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم : عيشة راضية ، أي : راض عائشها ، ويقولون : رجع إلى الحافرة ، تمثيلا لمن كان في حالة ففارقها ، ثم رجع إليها فصار : رجع في الحافرة ، ورد إلى الحافرة ، جاريا مجرى المثل .

ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطان حسبما ظن ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكتاب :


أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار



ومن الأمثال قولهم : " النقد عند الحافرة " . أي : إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرهان .

يريد : أرجوعا إلى حافرة .

وظرف ( إذا ) في قوله : ( إذا كنا عظاما نخرة ) وهو مناط التعجب وادعاء الاستحالة ، أي : إذا صرنا عظاما بالية فكيف نرجع أحياء .

و ( إذا ) متعلق ب ( مردودون ) .

و ( نخرة ) صفة مشتقة من قولهم : نخر العظم ، إذا بلي فصار فارغ الوسط كالقصبة . وتأنيث نخرة ; لأن موصوفه جمع تكسير ، فوصفه يجري على التأنيث في الاستعمال .

هي همزة ( إذا ) ، وقرأه بقية العشرة ( أإذا ) بهمزتين ؛ إحداهما مفتوحة همزة الاستفهام والثانية مكسورة هي همزة ( إذا ) .

وهذا الاستفهام إنكاري مؤكد للاستفهام الأول للدلالة على أن هذه الحالة [ ص: 71 ] جديرة بزيادة إنكار الإرجاع إلى الحياة بعد الموت ، فهما إنكاران لإظهار شدة إحالته .

وقرأ الجمهور ( نخرة ) بدون ألف بعد النون . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب ، وخلف ( ناخرة ) بالألف .

التالي السابق


الخدمات العلمية