صفحة جزء
[ ص: 152 ] فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين .

الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء ، فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به ، فلما قضي حق الإنذار به وذكر أشراطه فرع عنه تصديق القرآن الذي أنذرهم به وأنه موحى به من عند الله .

فالتفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذكر معا ، وقد جاء تفريع القسم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير :

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم

عقب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بعد القسم ، وإنما قصد به أن ما تقدم من الكلام إنما هو للإقبال على ما بعد الفاء ، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير : ومعنى لا أقسم : إيقاع القسم ، وقد عدت ( لا ) زائدة ، وتقدم عند قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم في سورة الواقعة .

والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه ، وأدمج فيه أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى .

و الخنس : جمع خانسة ، وهي التي تخنس ، أي : تختفي ، يقال : خنست البقرة والظبية ، إذا اختفت في الكناس .

و الجواري : جمع جارية ، وهي التي تجري ، أي : تسير سيرا حثيثا .

و الكنس : جمع كانسة ، يقال : كنس الظبي ، إذا دخل كناسه - بكسر الكاف - وهو البيت الذي يتخذه للمبيت .

وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية ; لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها [ ص: 153 ] الكواكب ، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار ، فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه ، فقيل : الخنس وهو من بديع التشبيه ; لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون السكون في كناس ، وكذلك الكواكب لأنها لا ترى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها .

فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها ، وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحا ، قال لبيد :

حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت بكرت تزل عن الثرى أزلامها

وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع ، فكان قوله : بالخنس استعارة وكان الجواري الكنس ترشيحين للاستعارة .

وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش ; لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش ، والألغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم ، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية :


    فقلت أعيراني القدوم لعلني
أخط بها قبرا لأبيض ماجد



أراد أنه يصنع بها غمدا لسيف صقيل مهند .

وعن ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس : حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة ، وإن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش .

[ ص: 154 ] والمعروف في أقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة .

ثم عطف القسم ب الليل على القسم ب ( الكواكب ) لمناسبة جريان الكواكب في الليل ، ولأن تعاقب الليل والنهار من أجل مظاهر الحكمة الإلهية في هذا العالم .

وعسعس الليل عسعاسا وعسعسة ، قال مجاهد عن ابن عباس : أقبل بظلامه ، وقال مجاهد أيضا عن ابن عباس معناه : أدبر ظلامه ، وقاله زيد بن أسلم وجزم به الفراء وحكى عليه الإجماع . وقال المبرد ، والخليل : هو من الأضداد ، يقال : عسعس ، إذا أقبل ظلامه ، وعسعس ، إذا أدبر ظلامه . قال ابن عطية : قال المبرد : أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معا اهـ .

وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادته كلا حالين صالحين للقسم به فيهما ; لأنهما من مظاهر القدرة إذ يعقب الظلام الضياء ، ثم يعقب الضياء الظلام ، وهذا إيجاز .

وعطف عليه القسم بالصبح حين تنفسه ، أي : انشقاق ضوئه لمناسبة ذكر الليل ، ولأن تنفس الصبح من مظاهر بديع النظام الذي جعله الله في هذا العالم .

والتنفس : حقيقته خروج النفس من الحيوان ، استعير لظهور الضياء مع بقايا الظلام على تشبيه خروج الضياء بخروج النفس على طريقة الاستعارة المصرحة ، أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجعل ذلك كالتنفس له على طريقة المكنية بتشبيه الصبح بذي نفس مع تشبيه النسيم بالأنفاس .

وضمير إنه عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر ، ولكنه معلوم من المقام في سياق الإخبار بوقوع البعث ، فإنه مما أخبرهم به القرآن وكذبوا بالقرآن لأجل ذلك .

والرسول الكريم يجوز أن يراد به جبريل - عليه السلام - وصف جبريل برسول لأنه مرسل من الله إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن .

[ ص: 155 ] وإضافة قول إلى رسول إما لأدنى ملابسة بأن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيحكيها كما أمره الله تعالى فهو قائلها ، أي : صادرة منه ألفاظها .

وفي التعبير عن جبريل بوصف رسول إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي .

قال ابن عطية : وقال آخرون الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - في الآية كلها اهـ . ولم يعين اسم أحد ممن قالوا هذا من المفسرين .

واستطرد في خلال الثناء على القرآن الثناء على الملك المرسل به تنويها بالقرآن ، فإجراء أوصاف الثناء على رسول للتنويه به أيضا ، وللكناية على أن ما نزل به صدق ; لأن كمال القائل يدل على صدق القول .

ووصف رسول بخمسة أوصاف : الأول : كريم وهو النفيس في نوعه .

والوصفان الثاني والثالث : ذي قوة عند ذي العرش مكين . فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها غالبا . ومن أوصافه تعالى ( القوي ) ، ومنها مقدرة الذات من إنسان أو حيوان على كثير من الأعمال التي لا يقدر عليها أبناء نوعه .

وضدها الضعف قال تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة .

وتطلق القوة مجازا على ثبات النفس على مرادها والإقدام ورباطة الجأش . قال تعالى : يا يحيى خذ الكتاب بقوة وقال : خذوا ما آتيناكم بقوة ، فوصف جبريل ب ذي قوة يجوز أن يكون شدة المقدرة كما وصف بذلك في قوله تعالى : ذو مرة ، ويجوز أن يكون من القوة المجازية وهي الثبات في أداء ما أرسل به ، كقوله تعالى : علمه شديد القوى ; لأن المناسب للتعليم هو قوة النفس ، وأما إذا كان المراد محمدا - صلى الله عليه وسلم - فوصفه ب ذي قوة عند ذي العرش يراد بها المعنى المجازي وهو الكرامة والاستجابة له .

[ ص: 156 ] والمكين : فعيل ، صفة مشبهة من مكن بضم الكاف مكانة ، إذا علت رتبته عند غيره ، قال تعالى في قصة يوسف مع الملك فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين .

وتوسيط قوله : عند ذي العرش بين ذي قوة و مكين ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز ، أي : هو ذو قوة عند الله ، أي : جعل الله مقدرة جبريل تخوله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير ، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى .

ووصف النبيء - صلى الله عليه وسلم - بذلك على نحو ما تقدم .

والعندية عندية تعظيم وعناية ، ف عند للمكان المجازي الذي هو بمعنى الاختصاص والزلفى .

وعدل على اسم الجلالة إلى ذي العرش بالنسبة إلى جبريل لتمثيل حال جبريل ومكانته عند الله بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك وهو بمحل الكرامة لديه .

وأما بالنسبة إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فللإشارة إلى عظيم شأنه إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأنا .

الوصف الرابع مطاع أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم ، أو النبيء - صلى الله عليه وسلم - مطاع : أي : مأمور الناس بطاعة ما يأمرهم به .

و ثم بفتح الثاء اسم إشارة إلى المكان ، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي دل عليه قوله : عند ذي العرش فيجوز تعلق الظرف ب مطاع وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل ، أي : مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبيء - صلى الله عليه وسلم - مطاع في العالم العلوي ، أي : مقرر عند الله أن يطاع فيما يأمر به .

ويجوز أن يتعلق ب أمين ، وتقديمه على متعلقه للاهتمام بذلك المكان ، فوصف جبريل به ظاهر أيضا ، ووصف النبيء - صلى الله عليه وسلم - به لأنه مقررة أمانته في الملأ الأعلى .

[ ص: 157 ] والأمين : الذي يحفظ ما عهد له به حتى يؤديه دون نقص ولا تغيير ، وهو فعيل إما بمعنى مفعول ، أي : مأمون من أمنه على كذا . وعلى هذا يقال : امرأة أمين ، ولا يقال : أمينة ، وإما صفة مشبهة من : أمن بضم الميم إذا صارت الأمانة سجيته ، وعلى هذا الوجه يقال : امرأة أمينة ، ومنه قول الفقهاء في المرأة المشتكية أضرار زوجها : يجعلان عند أمينة وأمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية