صفحة جزء
سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض .

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( سارعوا ) دون واو عطف .

تتنزل جملة سارعوا . . منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لجملة وأطيعوا الله والرسول لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة فلذلك فصلت . ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يئول إلى الأمر بالأعمال الصالحة ، جاز عطف الجملة على جملة الأمر بالطاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة وسارعوا بالعطف . وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنه يجوز الفصل في بعض الجمل باعتبارين .

والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث وإذا استنفرتم فانفروا .

[ ص: 89 ] والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة ، وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات .

وجيء بصيغة المفاعلة ، مجردة عن معنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدل في الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى ثم ارجع البصر كرتين .

وتنكير مغفرة ووصلها بقوله من ربكم مع تأني الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم ، لقصد الدلالة على التعظيم ، ووصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد . والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العديل :


ودون يد الحجاج من أن تنالني بساط بأيدي الناعجات عريض

وذكر السماوات والأرض جار على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع . وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنة مخلوقة الآن ، وأنها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد روي : العرش سقف الجنة . وأما من قال : إن الجنة لم تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنة منهم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك . وأدلة الكتاب والسنة ظاهرة في أن الجنة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو الحديث الطويل الذي [ ص: 90 ] فيه قوله إن جبريل وميكال قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : دعاني أدخل منزلي ، قالا : إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية