صفحة جزء
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .

[ ص: 92 ] إن كان عطف فريق آخر ، فهم غير المتقين الكاملين ، بل هم فريق من المتقين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وإن كان عطف صفات ، فهو تفضيل آخر لحال المتقين بأن ذكر أولا حال كمالهم ، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم .

والفاحشة الفعلة المتجاوزة الحد في الفساد ، ولذلك جمعت في قوله تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش واشتقاقها من فحش بمعنى قال قولا ذميما ، كما في قول عائشة : لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا ، أو فعل فعلا ذميما ، ومنه قل إن الله لا يأمر بالفحشاء .

ولا شك أن التعريف هنا تعريف الجنس ، أي فعلوا الفواحش ، وظلم النفس هو الذنوب الكبائر ، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . فقيل : الفاحشة المعصية الكبيرة ، وظلم النفس الكبيرة مطلقا ، وقيل : الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير ، وظلم النفس الكبيرة القاصرة على النفس ، وقيل : الفاحشة الزنا ، وهذا تفسير على معنى المثال .

والذكر في قوله ذكروا الله ذكر القلب وهو ذكر ما يجب لله على عبده ، وما أوصاه به ، وهو الذي يتفرع عنه طلب المغفرة ، وأما ذكر اللسان فلا يترتب عليه ذلك . ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده .

والاستغفار : طلب المغفرة أي الستر للذنوب ، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب ، ولذلك صار يعدى إلى الذنب باللام الدالة على التعليل كما هنا ، وقوله تعالى واستغفر لذنبك . ولما كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة ، ونية إقلاع عن الذنب ، وعدم العودة إليه ، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة ، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمر عليه ، أو عازم على معاودته ، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من [ ص: 93 ] الذنب ، فلذلك عد الاستغفار هنا رتبة من مراتب التقوى . وليس الاستغفار مجرد قول أستغفر الله باللسان والقائل ملتبس بالذنوب . وعن رابعة العدوية أنها قالت : " استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار " وفي كلامها مبالغة فإن الاستغفار بالقول مأمور به في الدين لأنه وسيلة لتذكر الذنب والحيلة للإقلاع عنه .

وجملة ومن يغفر الذنوب إلا الله معترضة بين جملة فاستغفروا وجملة ولم يصروا على ما فعلوا .

والاستفهام مستعمل في معنى النفي ، بقرينة الاستثناء منه ، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب ، والتعريض بالمشركين الذين اتخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، وبالنصارى في زعمهم أن عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صلبه .

وقوله ولم يصروا إتمام لركني التوبة لأن قوله فاستغفروا لذنوبهم يشير إلى الندم ، وقوله ولم يصروا تصريح بنفي الإصرار ، وهذان ركنا التوبة . وفي الحديث الندم توبة ، وأما تدارك ما فرط فيه بسبب الذنب فإنما يكون مع الإمكان ، وفيه تفصيل إذا تعذر أو تعسر ، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك .

وقوله ولم يصروا على ما فعلوا حال من الضمير المرفوع في ذكروا أي : ذكروا الله في حال عدم الإصرار . والإصرار : المقام على الذنب ، ونفيه هو معنى الإقلاع . وقوله وهم يعلمون حال ثانية ، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم ، وعظم غضب الرب ، ووجوب التوبة إليه ، وأنه تفضل بقبول التوبة فمحا بها الذنوب الواقعة .

وقد انتظم من قوله ذكروا الله فاستغفروا وقوله ولم يصروا وقوله وهم يعلمون الأركان الثلاثة التي ينتظم منها معنى التوبة في كلام أبي حامد [ ص: 94 ] الغزالي في كتاب التوبة من إحياء علوم الدين إذ قال وهي علم ، وحال ، وفعل . فالعلم هو معرفة ضر الذنوب ، وكونها حجابا بين العبد وبين ربه ، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات ما يحبه من القرب من ربه ، ورضاه عنه ، وذلك الألم يسمى ندما ، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعث منه في القلب حالة تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال والماضي والمستقبل ، فتعلقه بالحال هو ترك الذنب ( الإقلاع ) ، وتعلقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل ( نفي الإصرار ) ، وتعلقه بالماضي بتلافي ما فات .

فقوله تعالى ذكروا الله إشارة إلى انفعال القلب .

وقوله ولم يصروا إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة .

وقوله وهم يعلمون إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني . وقد رتب هاته الأركان في الآية بحسب شدة تعلقها بالمقصود : لأن ذكر الله يحصل بعد الذنب ، فيبعث على التوبة ، ولذلك رتب الاستغفار عليه بالفاء ، وأما العلم بأنه ذنب ، فهو حاصل من قبل حصول المعصية ، ولولا حصوله لما كانت الفعلة معصية . فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار ، على أن جملة الحال لا تدل على ترتيب مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلها في الأخبار والصفات .

ثم إن أركان الإصرار ، وهو الاستمرار على الذنب ، كما فسر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خشية الله تعالى ، فلم يدل على أنه عازم على عدم العود إليه ، ولكنه بحسب الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندم على فعله ، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التوبة الخالصة ، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه ، إذ التلبس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه ، فإنه متلبس به من الآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية