صفحة جزء
والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها .

القسم لتأكيد الخبر ، والمقصود بالتأكيد هو ما في سوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال .

والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قسم .

وكل من الشمس والقمر والسماء والأرض ونفس الإنسان من أعظم مخلوقات الله ذاتا ومعنى ، الدالة على بديع حكمته وقوي قدرته .

وكذلك كل من الضحى ، وتلو القمر الشمس ، والنهار والليل ، من أدق النظام الذي جعله الله تعالى .

والضحى : وقت ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها وظهور شعاعها ، وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رمح .

ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح ، وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران .

والتلو : التبع ، وأريد به خلف ضوئه في الليل ضوء الشمس أي : إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها ، وهذا تلو مجازي . والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله ، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليال ، وهو أيضا يتلو الشمس حين يقارب الابتدار وحين يصير [ ص: 367 ] بدرا ، فإذا صار بدرا صار تلوه الشمس حقيقة ; لأنه يظهر عندما تغرب الشمس ، وقريبا من غروبها قبله أو بعده ، وهو أيضا يضيء في أكثر ليالي الشهر ، جعله الله عوضا عن الشمس في عدة ليال في الإنارة ، ولذلك قيد القسم بحين تلوه ; لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلو للناظرين ، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به ، فكان بمنزلة قسم بوقت تلوه الشمس ، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس .

وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس ، أي : من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر ، وليس نيرا بذاته ، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن ، وهو مما أشرت إليه في المقدمة العاشرة .

وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإسلام ; لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكا ، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق ، وأتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك ، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك ، وذلك عكس ما في سورة الليل ؛ لما يأتي .

ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر ، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل ، واضحة ، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود .

والضمير المؤنث في قوله : ( جلاها ) ظاهره أنه عائد إلى الشمس ، فمعنى تجلية النهار الشمس : وقت ظهور الشمس .

فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي ، والقسم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي . وقيل : الضمير عائد إلى الأرض ، أي : أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود ، كما يقال عند نزول المطر : أرسلت . يعنون : أرسلت السماء ماءها .

وقيد القسم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجا للمنة في القسم .

وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة ; لأن الشمس [ ص: 368 ] أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض ، ولما في حالها وحال أضوائها من الإيماء إلى أنها مثل لظهور الإيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور ، فإن الكفر والمعاصي تمثل بالظلمة ، والإيمان والطاعات تمثل بالضياء ، قال تعالى : ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ) .

وأعقب القسم بالنهار بالقسم بالليل ; لأن الليل مقابل وقت النهار فهو وقت الإظلام .

والغشي : التغطية ، وليس الليل بمغط للشمس على الحقيقة ولكنه مسبب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب ، وهو زمن لذلك الغشي ، فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمنه أو إلى مسببه ( بفتح الباء ) .

والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية ، وقيل : ضمير المؤنث في ( يغشاها ) عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في ( والنهار إذا جلاها ) .

و ( إذا ) في قوله : ( إذا تلاها ) وقوله : ( إذا جلاها ) وقوله : ( إذا يغشاها ) في محل نصب على الظرفية متعلقة بكون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر ، أي : مقسما بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدها دلالة على عظيم صنع الله تعالى .

وبناء السماء تشبيه لرفعها فوق الأرض بالبناء . والسماء آفاق الكواكب ، قال تعالى : ( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ) وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيرا بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور .

وطحو الأرض : بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع ، يقال : طحا يطحو ويطحي طحوا وطحيا ، وهو مرادف ( دحا ) في سورة النازعات .

والنفس : ذات الإنسان كما تقدم عند قوله تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة ) وتنكير ( نفس ) للنوعية أي : جنس النفس فيعم كل نفس عموما بالقرينة على نحو قوله تعالى : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) .

[ ص: 369 ] وتسوية النفس : خلقها سواء ، أي : غير متفاوتة الخلق ، وتقدم في سورة الانفطار عند قوله تعالى : ( الذي خلقك فسواك ) .

و ( ما ) في المواضع الثلاثة من قوله : ( وما بناها ) ، أو ( ما طحاها ) ، ( وما سواها ) ، إما مصدرية يؤول الفعل بعدها بمصدر ، فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعه السماء وطحوه الأرض وتسويته الإنسان .

وعطف ( فألهمها فجورها وتقواها ) على ( سواها ) ، فهو مقسم به ، وفعل ( ألهمها ) في تأويل مصدر ؛ لأنه معطوف على صلة ( ما ) المصدرية ، وعطف بالفاء ; لأن الإلهام ناشئ عن التسوية ، فضمير الرفع في ( ألهمها ) عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من ( سواها ) . ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة صادقة على فعل الله تعالى ، وجملة ( بناها ) صلة الموصول ، أي : والبناء الذي بنى السماء ، والطحو الذي طحا الأرض ، والتسوية التي سوت النفس .

فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا ، إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ، ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإلهام .

والإلهام : مصدر ( ألهم ) ، وهو فعل متعد بالهمزة ، ولكن المجرد منه ممات ، والإلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهدا له من كلام العرب .

ويطلق الإلهام إطلاقا خاصا على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير ، فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانيا كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية ، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية النظرية .

وإيثار الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإنسان ، قال الراغب : " الإلهام : إيقاع الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى " اهـ . ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن ; لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة [ ص: 370 ] قبل الإسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب ، وهو مشتق من اللهم وهو البلع دفعة ، يقال : لهم - كفرح - ، وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند ، فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية .

والمعنى هنا : أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية ، والإدراك الضروري المدرج ابتداء من الانسياق الجبلي نحو الأمور النافعة ، كطلب الرضيع الثدي أول مرة ، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يكره إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي ، وكل ذلك إلهام .

وتعدية الإلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية ، مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل ، باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية ، فلولا العقول لما تيسر إفهام الإنسان الفجور والتقوى ، والعقاب والثواب .

وتقديم الفجور على التقوى مراعى فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون ، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم ، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ .

ومجيء فعل ( ألهمها ) بصيغة الإسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي ، أو لمراعاة لفظ ( ما ) إن جعلتها موصولة .

التالي السابق


الخدمات العلمية