صفحة جزء
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين .

استئناف ابتدائي : تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحد ، وما بينهما استطراد ، كما علمت آنفا ، وهذا مقدمة التسلية والبشارة الآتيتين . ابتدئت هاته المقدمة بحقيقة تاريخية : وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية .

[ ص: 96 ] وجيء بقد ، الدالة على تأكيد الخبر ، تنزيلا لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين ، مع أنهم يقاتلون لنصر دين الله ، وبعد أن ذاقوا حلاوة النصر يوم بدر ، فبين الله لهم أن الله جعل سنة هذا العالم أن تكون الأحوال فيه سجالا ومداولة ، وذكرهم بأحوال الأمم الماضية ، فقال قد خلت من قبلكم سنن . والله قادر على نصرهم ، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلا يغتر من يأتي بعدهم من المسلمين ، فيحسب أن النصر حليفهم . ومعنى خلت مضت وانقرضت . كقوله تعالى قد خلت من قبله الرسل .

والسنن جمع سنة - بضم السين - وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم صدور العمل على مثالها قال لبيد :


من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها

وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي :


فلا تجزعن من سنة أنت سرتها     فأول راض سنة من يسيرها

وقد تردد اعتبار أيمة اللغة إياها اسما جامدا غير مشتق ، أو اسم مصدر سن ، إذ لم يرد في كلام العرب السن بمعنى وضع السنة ، وفي الكشاف في قوله سنة الله في الذين خلوا من قبل في سورة الأحزاب : سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تربا وجندلا ، ولعل مراده أنه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تربا وجندلا مقام تبا وسحقا في النصب على المفعولية المطلقة ، التي هي من شأن المصادر ، وأن المعنى تراب له وجندل له أي حصب بتراب ورجم بجندل . ويظهر أنه مختار صاحب القاموس لأنه لم يذكر في مادة سن ما يقتضي أن السنة اسم المصدر ، ولا أتى بها عقب فعل سن ، ولا ذكر مصدرا لفعل سن . وعلى هذا يكون فعل سن هو المشتق من السنة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة ، وهو اشتقاق نادر . والجاري بكثرة على ألسنة المفسرين والمعبرين : أن السنة اسم مصدر سن ولم يذكروا لفعل سن مصدرا [ ص: 97 ] قياسيا . وفي القرآن إطلاق السنة على هذا المعنى كثيرا فلن تجد لسنة الله تبديلا وفسروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية .

والمعنى : قد مضت من قبلكم أحوال للأمم ، جارية على طريقة واحدة ، هي عادة الله في الخلق ، وهي أن قوة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل ، والعاقبة للمتقين المحقين ، ولذلك قال فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي المكذبين برسل ربهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقق ما بلغ من أخبارهم ، أو السؤال عن أسباب هلاكهم ، وكيف كانوا أولي قوة ، وكيف طغوا على المستضعفين ، فاستأصلهم الله لتطمئن نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان ، فإن للعيان بديع معنى لأن المؤمنين بلغتهم أخبار المكذبين ، ومن المكذبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس ، وكلهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم ، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم .

وفي الآية دلالة على أهمية علم التاريخ لأن فيه فائدة السير في الأرض ، وهي معرفة أخبار الأوائل ، وأسباب صلاح الأمم وفسادها . قال ابن عرفة : السير في الأرض حسي ومعنوي ، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم ، وما يقرب من العلم ، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز الإنسان وقصوره .

وإنما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأن في المخاطبين من كانوا أميين ، ولأن المشاهدة تفيد من لم يقرأ علما وتقوى علم من قرأ التاريخ أو قص عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية