صفحة جزء
فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا .

الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا ، أي : إذا علمت هذا وتقرر ، تعلم أن اليسر مصاحب للعسر ، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبة اليسر للعسر مقتضية نقض تأثير العسر ومبطلة لعمله ، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق ، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله .

وسياق الكلام وعد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن ييسر الله له المصاعب كلما عرضت له ، فاليسر لا يتخلف عن اللحاق بتلك المصاعب ، وذلك من خصائص كلمة ( مع ) الدالة على المصاحبة .

وكلمة ( مع ) هنا مستعملة في غير حقيقة معناها ; لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معا مستحيلة ، فتعين أن المعية مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره ، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعية . وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى : ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) في سورة الطلاق .

فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وآية سورة الطلاق عامة ، وللبعدية فيها مراتب متفاوتة .

فالتعريف في " العسر " تعريف العهد ، أي : العسر الذي عهدته وعلمته ، وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن ( أل ) فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى : ( فإن الجنة هي المأوى ) أي : فإن مع عسرك يسرا ، فتكون السورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبيء - صلى الله عليه وسلم - عند ربه تعالى .

[ ص: 414 ] وعد الله تعالى نبيئه - صلى الله عليه وسلم - بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق وعده له بقوله : ( ونيسرك لليسرى ) .

وحرف ( إن ) للاهتمام بالخبر .

وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر : ( إن ) تغني غناء فاء التسبب ; لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو اقتصر على حرف ( إن ) لفات معنى الفصيحة .

وتنكير ( يسرا ) للتعظيم ، أي : مع العسر العارض لك تيسيرا عظيما يغلب العسر ، ويجوز أن يكون هذا وعدا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ولأمته ; لأن ما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شئون دعوته للدين ولصالح المسلمين .

وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحسن عن النبيء أنه لما نزلت هذه الآية ( فإن مع العسر يسرا ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين " فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - بل تعمه وأمته . وفي الموطأ " أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد : فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين " .

وروى ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن عائذ بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : " كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - جالسا وحياله حجر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه ، فأنزل الله عز وجل ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح ، قال ابن كثير : وقد قال أبو حاتم الرازي : في حديث عائذ بن شريح ضعف .

وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفا . ويجوز أن تكون جملة ( فإن مع العسر يسرا ) معترضة بين جملة ( ورفعنا لك ذكرك ) وجملة ( فإذا فرغت فانصب ) تنبيها على أن الله لطيف بعباده ، فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وأنه لولا ذلك لهلك الناس ، قال تعالى : ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ) .

[ ص: 415 ] وروي عن ابن عباس يقول الله تعالى : " خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ، ولن يغلب عسر يسرين " اهـ .

والعسر : المشقة في تحصيل المرغوب والعمل المقصود .

واليسر ضده وهو : سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه .

وجملة ( إن مع العسر يسرا ) مؤكدة لجملة ( فإن مع العسر يسرا ) وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه ; لأنه خبر عجيب .

ومن المفسرين من جعل اليسر في الجملة الأولى يسر الدنيا ، وفي الجملة الثانية يسر الآخرة ، وأسلوب الكلام العربي لا يساعد عليه ; لأنه متمحض لكون الثانية تأكيدا .

هذا وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : " لن يغلب عسر يسرين " قد ارتبط لفظه ومعناه بهذه الآية . وصرح في بعض رواياته بأنه قرأ هذه الآية حينئذ ، وتضافر المفسرون على انتزاع ذلك منها فوجب التعرض لذلك ، وشاع بين أهل العلم أن ذلك مستفاد من تعريف كلمة العسر وإعادتها معرفة ومن تنكير كلمة يسر وإعادتها منكرة ، وقالوا : إن اللفظ النكرة إذا أعيد نكرة فالثاني غير الأول ، وإذا أعيد اللفظ معرفة فالثاني عين الأول ، كقوله تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) .

وبناء كلامهم على قاعدة إعادة النكرة معرفة خطأ ; لأن تلك القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة ، وهي خاصة بالتعريف بلام العهد دون لام الجنس ، وهي أيضا في إعادة اللفظ في جملة أخرى ، والذي في الآية ليس بإعادة لفظ في كلام ثان ، بل هي تكرير للجملة الأولى ، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا المأخذ ، وقد أبطله من قبل أبو علي الحسين الجرجاني في كتاب النظم كما في [ ص: 416 ] معالم التنزيل . وأبطله صاحب الكشاف أيضا ، وجعل ابن هشام في مغني اللبيب تلك القاعدة خطأ .

والذي يظهر في تقرير معنى قوله " لن يغلب عسر يسرين " أن جملة ( إن مع العسر يسرا ) تأكيد لجملة ( فإن مع العسر يسرا ) . ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر . ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله ، فكان التأكيد مفيدا ترجيح أثر اليسر على أثر العسر ، وذلك الترجيح عبر عنه بصيغة التثنية في قوله " يسرين " فالتثنية هنا كناية رمزية عن التغلب والرجحان ، فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله تعالى : ( ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) أي : ارجع البصر كثيرا ; لأن البصر لا ينقلب حسيرا من رجعتين . ومن ذلك قول العرب : لبيك ، وسعديك ، ودواليك . والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر ، فكانت القوة لازم لازم التثنية ، وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية .

وليس ذلك مستفادا من تعريف العسر باللام ولا من تنكير اليسر وإعادته منكرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية