صفحة جزء
[ ص: 210 ] [ ص: 211 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء

سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء; ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده . وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير ، ولا يعرف لها اسم آخر ، لكن يؤخذ مما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود من قوله " لنزلت سورة النساء القصرى " يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى ، ولم أقف عليه صريحا . ووقع في كتاب بصائر ذوي التمييز للفيروزاباذي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى ، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى . ولم أره لغيره .

ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم ، ثم بأحكام تخص النساء ، وأن فيها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج ، والبنات ، وختمت بأحكام تخص النساء .

وكان ابتداء نزولها بالمدينة ، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده . وقد علم أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - بنى بعائشة في المدينة في شوال ، لثمان أشهر خلت من الهجرة ، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة ، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة . والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران ، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال سنة ثلاث أي بعد وقعة أحد ، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها . وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ثم آل عمران ، ثم سورة الأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد وقعة الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة ، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة [ ص: 212 ] الممتحنة شرط إرجاع من يأتي من المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء ، وهي آية إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية . وقد قيل : إن آية وآتوا اليتامى أموالهم نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم ، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب ، إذ هم من جملة الأحزاب ، أي بعد سنة خمس . ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة . وهو بعيد . وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت ب ( يا أيها الناس ) ، وما كان فيه يا أيها الناس فهو مكي ، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين . وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة . والحق أن الخطاب ب يا أيها الناس لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب ، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة ، ولا قبل الهجرة ، فإن كثيرا مما فيه يا أيها الناس مدني بالاتفاق . ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة ، وانتظام أحوالهم وأمنهم من أعدائهم . وفيها آية التيمم ، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس ، وقيل : سنة ست . فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها ، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث ، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الأموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك ، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها ، وهي آية الكلالة ، هي آخر آية نزلت من القرآن ، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة ، التي في آخرها مدة طويلة ، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى . ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء ، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف . ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها يعني مكة . وفيها آية إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي ، صاحب مفتاح الكعبة ، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم ، نحو قوله ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما فقد ضل ضلالا بعيدا إلخ . [ ص: 213 ] وسوى التهديد بالقتال ، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة . وتوهين بأسهم عن المسلمين ، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن ، وصار المسلمون في قوة عليهم ، وأن معظمها ، بعد التشريع ، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين ، وجدال مع النصارى ليس بكثير ، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران ، مما يدل على أن مخالطة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة .

وقد عدت الثالثة والتسعين من السور ، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة إذا زلزلت الأرض .

وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة ، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة ، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام .

وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم ، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله ، وأنهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك ، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه ، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة ، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن ، والإشارة إلى النكاح والصداق ، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ، ومعاشرتهن والمصالحة معهن ، وبيان ما يحل للتزوج منهن ، والمحرمات بالقرابة أو الصهر ، وأحكام الجواري بملك اليمين . وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة ، وتقسيم ذلك ، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم .

ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه ، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة ، والتحذير من اتباع الهوى ، والأمر بالبر ، والمواساة ، وأداء الأمانات ، والتمهيد لتحريم شرب الخمر .

[ ص: 214 ] وطائفة من أحكام الصلاة ، والطهارة ، وصلاة الخوف . ثم أحوال اليهود ، لكثرتهم بالمدينة ، وأحوال المنافقين وفضائحهم ، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين . وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة ، وإبطال مآثر الجاهلية .

وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب ، ونهي عن الحسد ، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع ، أو بحكم الفطرة . والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح . وبث المحبة بين المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية