صفحة جزء
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا .

استئناف ابتدائي ، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى ، ومجرى المقدمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم .

ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها : أنهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشداء بالأموال ، وحرمان الضعفاء ، وإبقاءهم عالة على أشدائهم حتى يكونوا في مقادتهم ، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم ، وكان أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان ، ويقنعون العائلة بالعيش في ظلال أقاربهم ، لأنهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم ، فصاروا عالة على الناس .

وأخص الناس بذلك النساء فإنهن يجدن ضعفا من أنفسهن ، ويخشين عار الضيعة ، [ ص: 248 ] ويتقين انحراف الأزواج ، فيتخذن رضا أوليائهن عدة لهن من حوادث الدهر ، فلما أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم ، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون .

فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه مما ترك له الوالدان والأقربون ، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم مما ترك الوالدان والأقربون ، وذكر النساء هناك تمهيدا لشرع الميراث ، وقد تأيد ذلك بقوله وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى فإن ذلك يناسب الميراث ، ولا يناسب إيتاء أموال اليتامى .

ولا جرم أن من أهم شرائع الإسلام الميراث ، فقد كانت العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصية لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة ، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والود ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يصرف لأبناء الميت الذكور ، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنهم يصرفونه إلى عصبة من أخوة وأبناء عم ، ولا تعطى بناته شيئا ، أما الزوجات فكن موروثات لا وارثات .

وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوة إلا إذا كان الأبناء ذكورا ، فلا ميراث للنساء لأنهم كانوا يقولون إنما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف . فإن لم تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة : الأب ثم الأخ ثم العم وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبني وهو أن يتخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبني والمتبنى جميع أحكام الأبوة .

ويورثون أيضا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلة بينهما فيتعاقدا على أن دمهما واحد ويتوارثا ، فلما جاء الإسلام لم يقع في مكة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذر تنفيذ ما يخالف أحكام سكانها ، ثم لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكة صار التوريث بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوة التي آخاها الرسول - عليه الصلاة والسلام - بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى ولكل [ ص: 249 ] جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون الآية من هاته السورة . وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظا في ذلك فأتم الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أن حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها .

وقد كان قوله تعالى وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون أول إعطاء لحق الإرث للنساء في العرب .

ولكون هذه الآية كالمقدمة جاءت بإجمال الحق والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمة ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقل لتسكن النفوس إليها بالتدريج .

روى الواحدي ، في أسباب النزول ، والطبري ، عن عكرمة ، وأحدهما يزيد على الآخر ما حاصله : إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن زوجي قتل معك يوم أحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمهما مالهما فما ترى يا رسول الله ؟ فوالله ما تنكحان أبدا إلا ولهما مال . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي الله في ذلك . فنزلت سورة النساء وفيها يوصيكم الله في أولادكم . قال جابر بن عبد الله : فقال لي رسول الله ادع لي المرأة وصاحبها فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك . ويروى : أن ابني عمه سويد وعرفطة ، وروي أنهما قتادة وعرفجة ، وروي أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما دعا العم أو ابني العم قال ، أو قالا له : يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكى عدوا . فقال : انصرف أو انصرفا ، حتى أنظر ما يحدث الله فيهن . فنزلت آية " للرجال نصيب " الآية . وروي أنه لما نزلت هاته الآية أرسل النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى ولي البنتين فقال : لا تفرق من مال أبيهما شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا .

[ ص: 250 ] والنصيب تقدم عند قوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سورة آل عمران .

وقوله مما قل منه أو كثر بيان ل " ما ترك " لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أن الحق متعلق بكل جزء من المال ، حتى لا يستأثر بعضهم بشيء ، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن سعد بن عدنان لأبنائه : مضر ، وربيعة ، وإياد ، وأنمار ، فجعل لمضر الحمراء كلها ، وجعل لربيعة الفرس ، وجعل لإياد الخادم ، وجعل لأنمار الحمار ، ووكلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجرهمي في نجران ، فانصرفوا إليه ، فقسم بينهم ، وهو الذي أرسل المثل : " إن العصا من العصية " .

وقوله " نصيبا مفروضا " حال من " نصيب " في قوله للرجال " نصيب " " وللنساء نصيب " وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفردا ولم يراع تعدده ، فلم يقل : نصيبين مفروضين ، على اعتبار كون المذكور نصيبين ، ولا قيل : أنصاب مفروضة ، على اعتبار كون المذكور موزعا للرجال وللنساء ، بل وروعي الجنس فجيء بالحال مفردا و " مفروضا " وصف . ومعنى كونه مفروضا أنه معين المقدار لكل صنف من الرجال والنساء ، كما قال تعالى في الآية الآتية فريضة من الله . وهذا أوضح دليل على أن المقصود بهذه الآية تشريع المواريث .

التالي السابق


الخدمات العلمية