صفحة جزء
[ ص: 9 ] فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما .

تفريع على أن تبتغوا بأموالكم وهو تفريع لفظي لبيان حق المرأة في المهر وأنه في مقابلة الاستمتاع تأكيدا لما سبقه من قوله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح ، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرد حق للزوجة أن تطالب به ; ولذلك فالظاهر أن تجعل ( ما ) اسم شرط صادقا على الاستمتاع ، لبيان أنه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر ، لأنه الفارق بينه وبين السفاح ، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله : فآتوهن أجورهن فريضة لأنه اعتبر جوابا للشرط .

والاستمتاع : الانتفاع ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وسمى الله النكاح استمتاعا لأنه منفعة دنيوية ، وجميع منافع الدنيا متاع ، قال تعالى : وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع .

والضمير المجرور بالباء عائد على ( ما ) . و ( من ) تبعيضية ، أي : فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهن ; فلا يجوز استمتاع بهن دون مهر .

أو يكون ( ما ) صادقة على النساء ، والمجرور بالباء عائدا إلى الاستمتاع المأخوذ من ( استمتعتم ) و ( من ) بيانية ، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها .

ويجوز أن تجعل ( ما ) موصولة ، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط ، وجيء حينئذ بـ ( ما ) ولم يعبر بـ ( من ) لأن المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة ، على أن ( ما ) تجيء للعاقل كثيرا ولا عكس . و " فريضة " حال من ( أجورهن ) أي مفروضة ، أي مقدرة بينكم . والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة .

وأما نكاح التفويض : وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر . وهو جائز عند جميع الفقهاء ; فجوازه مبني على أنهم لا يفوضون إلا وهم يعلمون معتاد أمثالهم ، ويكون ( فريضة ) بمعنى تقديرا ، ولذلك قال : ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . أي فيما زدتم لهن أو أسقطن لكم عن طيب نفس . فهذا معنى الآية بينا لا غبار عليه .

[ ص: 10 ] وذهب جمع ، منهم ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وابن جبير : أنها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله : فما استمتعتم به منهن . ونكاح المتعة : هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجلة بزمان أو بحالة ، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة ، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة ، ووقع النهي عنه يوم خيبر ، أو يوم حنين على الأصح . والذين قالوا : حرم يوم خيبر قالوا : ثم أبيح في غزوة الفتح ، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح . وقيل : نهي عنه في حجة الوداع ، قال أبو داود : وهو أصح . والذي استخلصناه أن الروايات فيها مضطربة اضطرابا كبيرا .

وقد اختلف العلماء في الأخير من شأنه : فذهب الجمهور إلى أن الأمر استقر على تحريمه ، فمنهم من قال : نسخته آية المواريث لأن فيها ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم فجعل للأزواج حظا من الميراث ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها . وقيل : نسخها ما رواه مسلم عن سبرة الجهني ، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندا ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة . وانفراد سبرة به في مثل ذلك اليوم مغمز في روايته ، على أنه ثبت أن الناس استمتعوا . وعن علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وجماعة من التابعين والصحابة أنهم قالوا بجوازه . قيل : مطلقا ، وهو قول الإمامية ، وقيل : في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن .

وروي عن ابن عباس أنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفى . وعن عمران بن حصين في الصحيح أنه قال نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال رجل برأيه ما شاء ، يعني عمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته ، وكان ابن عباس يفتي بها ، فلما قال له سعيد بن جبير : أتدري ما صنعت بفتواك فقد سارت بها الركبان حتى قال القائل :

[ ص: 11 ]

قد قلت للركب إذ طال الثواء بـنـا يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس     في بضة رخصة الأطراف ناعمة
تكون مثواك حتى مرجع الناس

أمسك عن الفتوى وقال : إنما أحللت مثل ما أحل الله الميتة والدم ، يريد عند الضرورة . واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها ، وفي رجوعه . والذي عليه علماؤنا أنه رجع عن إباحتها . أما عمران بن حصين فثبت على الإباحة . وكذلك ابن عباس على الصحيح . وقال مالك : يفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء ، وفسخه بغير طلاق ، وقيل : بطلاق ، ولا حد فيه على الصحيح من المذهب ، وأرجح الأقوال أنها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات ، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل . وللنظر في ذلك مجال .

والذي يستخلص من مختلف الأخبار أن المتعة أذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، ونهى عنها مرتين ، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرر ولكنه إناطة إباحتها بحال الاضطرار ، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنه نسخ . وقد ثبت أن الناس استمتعوا في زمن أبي بكر ، وعمر ، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته . والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدة العصمة ، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجه . ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد وولي حيث يشترط ، وأنها تبين منه عند انتهاء الأجل ، وأنها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة ، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع ، وأن عدتها حيضة واحدة ، وأن الأولاد لاحقون بأبيهم المستمتع . وشذ النحاس فزعم أنه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة . ونحن نرى أن هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة ، وليس سياقها سامحا بذلك ، ولكنها صالحة لاندراج المتعة في عموم ( ما استمتعتم ) فيرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعت آنفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية