صفحة جزء
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا .

استئناف فيه معنى التذييل والتعليل لقوله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين وهو بشارة للرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن جهاد المجاهدين بدعوته يناله منه نصيب عظيم من الأجر ، فإن تحريضه إياهم وساطة بهم في خيرات عظيمة ، فجاءت هذه الآية بهذا الحكم العام على عادة القرآن في انتهاز فرص الإرشاد .

ويعلم من عمومها أن التحريض على القتال في سبيل الله من الشفاعة الحسنة ، وأن سعي المثبطين للناس من قبيل الشفاعة السيئة ، فجاءت هذه الآية إيذانا للفريقين بحالتهما . والمقصود مع ذلك الترغيب في التوسط في الخير والترهيب من ضده .

والشفاعة : الوساطة في إيصال خير أو دفع شر ، سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا ، وتقدمت في قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة في سورة البقرة ، وفي الحديث اشفعوا [ ص: 144 ] فلتؤجروا .

ووصفها بالحسنة وصف كاشف; لأن الشفاعة لا تطلق إلا على الوساطة في الخير ، وأما إطلاق الشفاعة على السعي في جلب شر فهو مشاكلة ، وقرينتها وصفها بسيئة ، إذ لا يقال شفع للذي سعى بجلب سوء .

والنصيب : الحظ من كل شيء : خيرا كان أو شرا ، وتقدم في قوله تعالى أولئك لهم نصيب مما كسبوا في سورة البقرة .

والكفل بكسر الكاف وسكون الفاء الحظ كذلك ، ولم يتبين لي وجه اشتقاقه بوضوح . ويستعمل الكفل بمعنى المثل ، فيؤخذ من التفسيرين أن الكفل هو الحظ المماثل لحظ آخر .

وقال صاحب اللسان : لا يقال هذا كفل فلان حتى يكون قد هيئ لغيره مثله ، ولم يعز هذا ، ونسبه الفخر إلى ابن المظفر ، ولم يذكر ذلك أحد غير هذين فيما علمت ، ولعله لا يساعد عليه الاستعمال . وقد قال الله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته .

وهل يحتج بما قاله ابن المظفر وابن المظفر هو محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي الأديب معاصر المتنبي . وفي مفردات الراغب أن الكفل هو الحظ من الشر والشدة ، وأنه مستعار من الكفل وهو الشيء الرديء ، فالجزاء في جانب الشفاعة الحسنة بأنه نصيب إيماء إلى أنه قد يكون له أجر أكثر من ثواب من شفع عنده .

وجملة وكان الله على كل شيء مقيتا تذييل لجملة من يشفع شفاعة حسنة الآية ، لإفادة أن الله يجازي على كل عمل بما يناسبه من حسن أو سوء .

والمقيت : الحافظ ، والرقيب ، والشاهد ، والمقتدر . وأصله عند أبي عبيدة الحافظ . وهو اسم فاعل من أقات إذا أعطى القوت ، فوزنه مفعل وعينه واو . واستعمل مجازا في معاني الحفظ والشهادة بعلاقة اللزوم ، لأن من يقيت أحدا فقد حفظه من الخصاصة أو من الهلاك ، وهو هنا مستعمل في معنى الاطلاع ، أو مضمن معناه ، كما ينبيء عنه تعديته بحرف ( على ) .

ومن أسماء الله تعالى المقيت ، وفسره الغزالي بموصل الأقوات ، فيؤول إلى معنى الرازق ، إلا أنه أخص ، وبمعنى المستولي على الشيء القادر عليه ، وعليه يدل قوله تعالى وكان الله على كل شيء مقيتا فيكون راجعا إلى القدرة والعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية