صفحة جزء
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبئاء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .

[ ص: 161 ] عطف القصة على القصص والمواعظ . وتقدم القول في نظائر " وإذ قال " في مواضع ، منها قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة في البقرة .

ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أن القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحث على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم .

وقدم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعد لهم ثلاث نعم عظيمة : أولاها أن فيهم أنبياء ، ومعنى جعل الأنبياء فيهم يجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء; فيحتمل أنه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأن هذه القصة وقعت بعد موت هارون; فيكون قوله : " أنبياء " جمعا أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع ، لأن الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية ، وهذا الجنس انحصر في فرد يومئذ ، كقوله تعالى يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا يريد محمدا صلى الله عليه وسلم ، أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء . فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة ( إصحاح : 15 من الخروج ) . وكذلك ألداد وميداد كانا نبيين في زمن موسى ، كما في التوراة ( إصحاح : 11 سفر العدد ) . وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أن في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال .

والثانية : أن جعلهم ملوكا ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبودية التي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مروا بها ، من الآموربين ، والعناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل " جعلكم " في معنى الاستقبال مثل أتى أمر الله قصدا لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم .

[ ص: 162 ] والنعمة الثالثة أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وماصدق ( ما ) يجوز أن يكون شيئا واحدا مما خص الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء ؛ إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة ، وأيدهم بالنصر في طريقهم ، وساق إليهم رزقهم المن والسلوى أربعين سنة ، وتولى تربية نفوسهم بواسطة رسله .

وقوله : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدمة ، ولذلك كرر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء بـ " يا قوم " لزيادة استحضار أذهانهم .

والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ، أي تهيئوا للدخول . والأرض المقدسة بمعنى المطهرة المباركة ، أي التي بارك الله فيها ، أو لأنها قدست بدفن إبراهيم عليه السلام في أول قرية من قراها وهي حبرون . وهي هنا أرض كنعان من برية صين إلى مدخل ( حماة وإلى حبرون ) . وهذه الأرض هي أرض فلسطين ، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى ( حماة ) شمالا وإلى ( غزة وحبرون ) جنوبا . وفي وصفها بـ التي كتب الله تحريض على الإقدام لدخولها .

ومعنى كتب الله : قضى وقدر ، وليس ثمة كتابة ولكنه تعبير مجازي شائع في اللغة ، لأن الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ، كما قال الحارث بن حلزة :


وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ، وذلك أن الله وعد إبراهيم أن يورثها ذريته . ووعد الله لا يخلف .

وقوله : ولا ترتدوا على أدباركم تحذير مما يوجب الانهزام ، لأن ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال . والارتداد افتعال من الرد ، يقال : رده فارتد ، والرد : إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي [ ص: 163 ] سار منه . والأدبار : جمع دبر ، وهو الظهر . والارتداد : الرجوع ، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ، أي الوراء لأنهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ، كما يقولون : نكص على عقبيه ، وركبوا ظهورهم ، وارتدوا على أدبارهم ، وعلى أعقابهم ، فعدي بـ ( على ) الدالة على الاستعلاء ، أي استعلاء طريق السير ، نزلت الأدبار التي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الذي يسار عليه .

والانقلاب : الرجوع ، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى فانقلبوا بنعمة من الله وفضل . والمراد به هنا مطلق المصير .

وضمائر ( فيها ومنها ) تعود إلى الأرض المقدسة .

وأرادوا بالقوم الجبارين في الأرض سكانها الكنعانيين ، والعمالقة ، والحثيين ، واليبوسيين ، والأموريين .

والجبار : القوي ، مشتق من الجبر ، وهو الإلزام لأن القوي يجبر الناس على ما يريد .

وكانت جواسيس موسى الاثنا عشر الذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم بجودة الأرض وبقوة سكانها . وهذا كناية عن مخافتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدسة ، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفا من أهلها ، وأكدوا الامتناع من دخول أرض العدو توكيدا قويا بمدلول ( إن ) و ( لن ) في إنا لن ندخلها تحقيقا لخوفهم .

وقوله : فإن يخرجوا منها فإنا داخلون تصريح بمفهوم الغاية في قوله : وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبارين الذين فيها .

وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد : أن الله أمر موسى أن يرسل اثني عشر رجلا جواسيس يتجسسون أرض كنعان التي وعدها الله بني إسرائيل من كل سبط رجلا ; فعين موسى اثني عشر رجلا ، منهم : يوشع بن نون من سبط أفرايم ، ومنهم كالب بن يفنة من سبط يهوذا ، ولم يسموا بقية الجواسيس . فجاسوا خلال الأرض من برية صين إلى حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكانها معتزين ، [ ص: 164 ] طوال القامات ، ومدنهم حصينة . فلما سمع بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمروا على موسى وقالوا : لو متنا في أرض مصر كان خيرا لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا ، فقال يوشع وكالب للشعب : إن رضي الله عنا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الرب ولا تخافوا من أهلها ، فالله معنا . فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم . وقال لموسى : لا يدخل أحد من سنه عشرون سنة فصاعدا هذه الأرض إلا يوشع وكالبا وكلكم ستدفنون في هذا القفر ، ويكون أبناؤكم رعاة فيه أربعين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية