صفحة جزء
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل .

[ ص: 243 ] هذه الجمل معترضة بين ما تقدمها وبين قوله : وإذا جاءوكم . ولا يتضح معنى الآية أتم وضوح ويظهر الداعي إلى أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأن يواجههم بغليظ القول مع أنه القائل لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم والقائل ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم إلا بعد معرفة سبب نزول هذه الآية ، فيعلم أنهم قد ظلموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين . فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال : جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازر ، وزيد ، وخالد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، إلى النبيء فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، فلما ذكر عيسى ابن مريم قالوا : لا نؤمن بمن آمن بعيسى ولا نعلم دينا شرا من دينكم وما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، فأنزل الله قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله إلى قوله : وأضل عن سواء السبيل . فخص بهذه المجادلة أهل الكتاب لأن الكفار لا تنهض عليهم حجتها ، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما ينبئ به الموصول وصلته في قوله : من لعنه الله وغضب عليه الآية . وكانت هذه المجادلة لهم بأن ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأملوا لا يجدون إلا الإيمان بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

والاستفهام إنكاري وتعجبي . فالإنكار دل عليه الاستثناء ، والتعجب دل عليه أن مفعولات " تنقمون " كلها محامد لا يحق نقمها ، أي لا تجدون شيئا تنقمونه غير ما ذكر . وكل ذلك ليس حقيقا بأن ينقم . فأما الإيمان بالله وما أنزل من قبل فظاهر أنهم رضوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثلهم فيه ، [ ص: 244 ] وأما الإيمان بما أنزل إلى محمد فكذلك ، لأن ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهم أهل الكتاب ، ودعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فما وجه النقم منه . وعدي فعل " تنقمون " إلى متعلقه بحرف ( من ) وهي ابتدائية . وقد يعدى بحرف ( على ) .

وأما عطف قوله تعالى وأن أكثركم فاسقون فقرأه جميع القراء بفتح همزة ( أن ) على أنه معطوف على أن آمنا بالله .

وقد تحير في تأويلها المفسرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أن ذلك لا يعترف به أهله ، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس مما ينقم على المؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه ، وعلى تقدير أن يكون مما ينقم على المؤمنين فليس نقمه عليهم بمحل للإنكار والتعجب الذي هو سياق الكلام .

فذهب المفسرون في تأويل موقع هذا المعطوف مذاهب شتى ، فقيل : هو عطف على متعلق " آمنا " أي آمنا بالله وبفسق أكثركم ، أي تنقمون منا مجموع هذين الأمرين . وهذا يفيت معنى الإنكار التعجبي لأن اعتقاد المؤمنين كون أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقمه فلا يتعجب منه ولا ينكر عليهم نقمه ، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فلا يلتئم مع المعطوف عليه ، فالجمع بين المتعاطفين حينئذ كالجمع بين الضب والنون ، فهذا وجه بعيد .

وقيل : هو معطوف على المستثنى ، أي ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم ، أي تنقمون تخالف حالينا ، فهو نقم حسد ، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجبي . وهذا الوجه ذكره في الكشاف وقدمه وهو يحسن لو لم تكن كلمة " منا " لأن اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين ، إذ ليس من فعلهم ولكن من مصادفة الزمان .

وقيل : حذف مجرور دل عليه المذكور ، والتقدير : هل تنقمون منا إلا الإيمان لأنكم جائرون وأكثركم فاسقون ، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود ، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا . وذكر وجهان آخران غير مرضيين .

[ ص: 245 ] والذي يظهر لي أن يكون قوله : وأن أكثركم فاسقون معطوفا على أن آمنا بالله على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكما ، أي تنقمون منا أننا آمنا كإيمانكم وصدقنا رسلكم وكتبكم ، وذلك نقمه عجيب وأننا آمنا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمكم . وتنقمون منا أن أكثركم فاسقون ، أي ونحن صالحون ، أي هذا نقم حسد ، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين . فظهرت قرينة التهكم فصار في الاستفهام إنكار فتعجب فتهكم ، تولد بعضها عن بعض وكلها متولدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية ، وبهذا يكمل الوجه الذي قدمه صاحب الكشاف .

ثم اطرد في التهكم بهم والعجب من أفن رأيهم مع تذكيرهم بمساويهم ، فقال قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله إلخ . و " شر " اسم تفضيل ، أصله أشر ، وهو للزيادة في الصفة ، حذفت همزته تخفيفا لكثرة الاستعمال ، والزيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أن المسلمين لهم حظ من الشر ، وإنما جرى هذا تهكما باليهود لأنهم قالوا للمسلمين : لا دين شر من دينكم ، وهو مما عبر عنه بفعل " تنقمون " . وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال : قلت فأوجبت .

والإشارة في قوله : " من ذلك " إلى الإيمان في قوله : هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله إلخ باعتبار أنه منقوم على سبيل الفرض والتقدير .

ولما كان شأن المنقوم أن يكون شرا بني عليه التهكم في قوله : هل أنبئكم بشر من ذلك ، أي مما هو أشد شرا .

والمثوبة مشتقة من ثاب يثوب ، أي رجع ، فهي بوزن مفعولة ، سمي بها الشيء الذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عمل عمله أو سعي سعاه ، وأصلها مثوب بها ، اعتبروا فيها التأنيث على تأويلها بالعطية أو الجائزة ثم حذف المتعلق لكثرة الاستعمال .

وأصلها مؤذن بأنها لا تطلق إلا على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله [ ص: 246 ] معه ، فلا تطلق على الضرب والشتم لأن ذلك ليس مما يثوب به المرء إلى منزله ، ولأن العرب إنما يبنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم ، فلا يريدون بالمثوبة إلا عطية نافعة . ويصح إطلاقها على الشيء النفيس وعلى الشيء الحقير من كل ما يثوب به المعطى . فجعلها في هذه الآية تمييزا لاسم الزيادة في الشر تهكم لأن اللعنة والغضب والمسخ ليست مثوبات ، وذلك كقول عمرو بن كلثوم :


قريناكم فعجلنا قـراكـم قبيل الصبح مرداة طحونا

وقول عمرو بن معدي كرب :


وخيل قد دلفت لها بخيل     تحية بينهم ضرب وجيع

وقوله : من لعنه الله مبتدأ ، أريد به بيان من هو شر مثوبة ، وفيه مضاف مقدر دل عليه السياق . وتقديره : مثوبة من لعنه الله . والعدول عن أن يقال : أنتم أو اليهود ، إلى الإتيان بالموصول للعلم بالمعني من الصلة ، لأن اليهود يعلمون أن أسلافا منهم وقعت عليهم اللعنة والغضب من عهد أنبيائهم ، ودلائله ثابتة في التوراة وكتب أنبيائهم ، فالموصول كناية عنهم .

وأما جعلهم قردة وخنازير فقد تقدم القول في حقيقته في سورة البقرة . وأما كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العجل .

والطاغوت : الأصنام ، وتقدم عند قوله تعالى يؤمنون بالجبت والطاغوت في سورة النساء .

وقرأ الجمهور وعبد الطاغوت بصيغة فعل المضي في " عبد " وبفتح التاء من الطاغوت على أنه مفعول " عبد " ، وهو معطوف على الصلة في قوله : من لعنه الله ، أي ومن عبدوا الطاغوت . وقرأه حمزة وحده بفتح العين وضم الموحدة وفتح الدال وبكسر الفوقية من كلمة الطاغوت على أن " عبد " جمع عبد ، وهو جمع سماعي قليل ، وهو على هذه القراءة معطوف على القردة والخنازير .

[ ص: 247 ] والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتا لهم عن التطاول . على أنه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمان قيام الرسل والنبيين بين ظهرانيهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالا وأجدر بكونهم شرا ، فيكون الكلام من ذم القبيل كله . على أن كثيرا من موجبات اللعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف ، على أنهم شتموا المسلمين بما زعموا أنه دينهم فيحق شتمهم بما نعتقده فيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية