ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون   .  
[ ص: 285 ] استئناف لتبيان وصف 
المسيح  في نفس الأمر ووصف أمه زيادة في إبطال معتقد 
النصارى  إلهية 
المسيح  وإلهية أمه ، إذ قد علم أن قولهم إن الله ثالث ثلاثة أرادوا به إلهية المسيح . وذلك معتقد جميع 
النصارى    . وفرعت طائفة من 
النصارى  يلقبون ( بـ الركوسية ) وهم أهل ملة نصرانية صابئة على إلهية 
عيسى  إلهية أمه ولولا أن ذلك معتقدهم لما وقع التعرض لوصف 
مريم  ولا للاستدلال على بشريتها بأنهما كانا يأكلان الطعام . 
فقوله 
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي 
المسيح  مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها ، وهي الإلهية . فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد 
النصارى  أنه الله . 
وقوله 
قد خلت من قبله الرسل صفة لرسول أريد بها أنه مساو للرسل الآخرين الذين مضوا قبله ، وأنه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختص فيه بخصوصية لم تكن لغيره في وصف الرسالة . فلا شبهة للذين ادعوا له الإلهية ، إذ لم يجئ بشيء زائد على ما جاءت به الرسل ، وما جرت على يديه إلا معجزات كما جرت على أيدي رسل قبله ، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض ، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيته . وفي هذا نداء على غباوة القوم الذين استدلوا على إلهيته بأنه أحيا الموتى من الحيوان فإن موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حية . 
وجملة 
وأمه صديقة معطوفة على جملة 
ما المسيح ابن مريم إلا رسول   . والقصد من وصفها بأنها صديقة نفي أن يكون لها وصف أعلى من ذلك ، وهو   
[ ص: 286 ] وصف الإلهية ، لأن المقام لإبطال قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، إذ جعلوا مريم الأقنوم الثالث . وهذا هو الذي أشار إليه قول صاحب الكشاف إذ قال : أي وما أمه إلا صديقة . مع أن الجملة لا تشتمل على صيغة حصر . وقد وجهه العلامة 
التفتزاني  في شرح الكشاف بقوله " الحصر الذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف " ، أي من مجموع الأمرين . وفي قول 
التفتزاني    : والعطف ، نظر . 
والصديقة صيغة مبالغة ، مثل شريب ومسيك ، مبالغة في الشرب والمسك ، ولقب 
امرئ القيس  بالملك الضليل ، لأنه لم يهتد إلى ما يسترجع به ملك أبيه . والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقة من المجرد الثلاثي . فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق ، أي صدق وعد ربها ، وهو ميثاق الإيمان وصدق وعد الناس . كما وصف 
إسماعيل  عليه السلام بذلك في قوله تعالى 
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد   . وقد لقب 
يوسف  بالصديق ، لأنه صدق وعد ربه في الكف عن المحرمات مع توفر أسبابها . وقيل : أريد هنا وصفها بالمبالغة في التصديق لقوله تعالى 
وصدقت بكلمات ربها ، كما لقب 
أبو بكر  بالصديق لأنه أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى 
والذي جاء بالصدق وصدق به ، فيكون مشتقا من المزيد . 
وقوله 
كانا يأكلان الطعام جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الذي هو نفي إلهية 
المسيح  وأمه ، ولذلك فصلت عن التي قبلها لأن الدليل بمنزلة البيان ، وقد استدل على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر ، وهي أكل الطعام . وإنما اختيرت هذه الصفة من بين صفات كثيرة لأنها ظاهرة واضحة للناس ، ولأنها أثبتتها الأناجيل; فقد أثبتت أن 
مريم  أكلت ثمر النخلة حين مخاضها ، وأن 
عيسى  أكل مع الحواريين يوم الفصح خبزا وشرب خمرا ، وفي إنجيل 
لوقا  إصحاح 22 " وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم لأني لا آكل منه بعد ، وفي الصبح إذ كان راجعا في المدينة جاع " .  
[ ص: 287 ] وقوله 
انظر كيف نبين لهم الآيات استئناف للتعجيب من حال الذين ادعوا الإلهية 
لعيسى    . والخطاب مراد به غير معين ، وهو كل من سمع الحجج السابقة . واستعمل الأمر بالنظر في الأمر بالعلم لتشبيه العالم بالرأي والعلم بالرؤية في الوضوح والجلاء . وقد تقدمت نظائره . وقد أفاد ذلك معنى التعجيب . ويجوز أن يكون الخطاب للرسول عليه السلام . والمراد هو وأهل القرآن . 
و كيف اسم استفهام معلق لفعل انظر عن العمل في مفعولين ، وهي في موضع المفعول به لـ انظر ، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام . وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية ، أي انظر ذلك تجد جوابك أنه بيان عظيم الجلاء يتعجب الناظر من وضوحه . 
والآيات جمع آية ، وهي العلامة على وجود المطلوب ، استعيرت للحجة والبرهان لشبهة بالمكان المطلوب على طريقة المكنية ، وإثبات الآيات له تخييل ، شبهت بآيات الطريق الدالة على المكان المطلوب . 
وقوله 
ثم انظر أنى يؤفكون   ( ثم ) فيه للترتيب الرتبي والمقصود أن التأمل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحق مع وضوحه . 
و يؤفكون يصرفون ، يقال : أفكه من باب ضرب ، صرفه عن الشيء . 
و ( أنى ) اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين ، ويستعمل بمعنى كيف . وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيف ( كما ) في الكشاف ، وعليه فإنما عدل عن إعادة ( كيف ) تفننا . ويجوز أن تكون بمعنى من أين ، والمعنى التعجيب من أين يتطرق إليهم الصرف عن الاعتقاد الحق بعد ذلك البيان البالغ غاية الوضوح حتى كان بمحل التعجيب من وضوحه . وقد علق بـ ( أنى ) فعل ( انظر ) الثاني عن العمل وحذف متعلق يؤفكون اختصارا ، لظهور أنهم يصرفون عن الحق الذي بينته لهم الآيات .