[ ص: 290 ] قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل   . 
الخطاب لعموم أهل الكتاب من 
اليهود  والنصارى  ، وتقدم تفسير نظيره في آخر سورة النساء . 
والغلو مصدر غلا في الأمر : إذا جاوز حده المعروف . فالغلو الزيادة في عمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع . 
وقوله غير الحق منصوب على النيابة عن مفعول مطلق لفعل تغلوا أي غلوا غير الحق ، وغير الحق هو الباطل . وعدل عن أن يقال باطلا إلى غير الحق لما في وصف غير الحق من تشنيع الموصوف . والمراد أنه مخالف للحق المعروف فهو مذموم; لأن الحق محمود فغيره مذموم . وأريد أنه مخالف للصواب احترازا عن الغلو الذي لا ضير فيه ، مثل المبالغة في الثناء على العمل الصالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع . وقد أشار إلى هذا قوله تعالى 
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق في سورة النساء . فمن غلو 
اليهود  تجاوزهم الحد في التمسك بشرع التوراة بعد رسالة عيسى 
ومحمد  عليهما الصلاة والسلام . ومن غلو 
النصارى  دعوى إلهية 
عيسى  وتكذيبهم 
محمدا  صلى الله عليه وسلم . ومن الغلو الذي ليس باطلا ما هو مثل الزيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنه مكروه . 
وقوله 
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل عطف على النهي عن الغلو ، وهو عطف عام من وجه على خاص من وجه; ففيه فائدة عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغلاة من أحبارهم ورهبانهم الذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدليل ، فلذلك سمي تغاليهم أهواء ; لأنها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنها أهواء فضلوا ودعوا إلى ضلالتهم   
[ ص: 291 ] فأضلوا كثيرا مثل ( قيافا ) حبر 
اليهود  الذي كفر 
عيسى  عليه السلام وحكم بأنه يقتل ، ومثل ( المجمع الملكاني ) الذي سجل عقيدة التثليث . 
 وقوله ( من قبل ) معناه من قبلكم . وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبل وبعد وغير وحسب ودون وأسماء الجهات ، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنية على الضم حينئذ ، ويندر أن تكون معربة إلا إذا نكرت . وقد وجه النحويون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكر بأنها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النادرة ، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللغة . 
وقوله 
وضلوا عن سواء السبيل مقابل لقوله 
قد ضلوا من قبل فهذا ضلال آخر ، فتعين أن سواء السبيل الذي ضلوا عنه هو الإسلام . 
والسواء المستقيم ، وقد استعير للحق الواضح ، أي قد ضلوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلوا بعد ذلك عن الإسلام . 
وقيل : الخطاب بقوله يا أهل الكتاب للنصارى خاصة ، لأنه ورد عقب مجادلة 
النصارى  وأن المراد بالغلو التثليث ، وأن المراد بالقوم الذين ضلوا من قبل هم 
اليهود    . ومعنى النهي عن متابعة أهوائهم النهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم; فيكون الكلام تنفيرا للنصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك 
اليهود  ، لأن 
النصارى  يبغضون 
اليهود  ويعرفون أنهم على ضلال .