صفحة جزء
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفرته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون .

استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم لأن التحريم يقع في غالب الأحوال بأيمان معزومة ، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام ، كأن يقول : والله لا آكل كذا . أو تجري بسبب غضب . وقيل : إنها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله . روى الطبري والواحدي عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ونهاهم النبيء صلى الله عليه وسلم عما عزموا عليه من ذلك ، كما تقدم آنفا ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها ، فأنزل الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية . [ ص: 19 ] فشرع الله الكفارة . وتقدم القول في نظير صدر هذه الآية في سورة البقرة . وتقدم الاختلاف في معنى لغو اليمين . وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين . فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أن حادثة أولئك الذين حرموا على أنفسهم بعض الطيبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلل من أيمانهم .

وقوله بما عقدتم الأيمان ، أي ما قصدتم به الحلف . وهو يبين مجمل قوله في سورة البقرة بما كسبت قلوبكم .

وقرأ الجمهور عقدتم بتشديد القاف . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بتخفيف القاف . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ( عاقدتم ) بألف بعد العين من باب المفاعلة . فأما ( عقدتم ) بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عقد ، وكذلك قراءة ( عاقدتم ) لأن المفاعلة فيه ليست على بابها ، فالمقصود منها المبالغة ، مثل عافاه الله . وأما قراءة التخفيف فلأن مادة العقد كافية في إفادة التثبيت . والمقصود أن المؤاخذة تكون على نية التوثق باليمين فالتعبير عن التوثق بثلاثة أفعال في كلام العرب : عقد المخفف ، وعقد المشدد ، وعاقد .

وقوله ذلك كفارة أيمانكم إشارة إلى المذكور ، زيادة في الإيضاح .

والكفارة مبالغة في كفر بمعنى ستر وأزال . وأصل الكفر بفتح الكاف الستر .

وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة ، كتاء نسابة وعلامة . والعرب يجمعون بينهما غالبا .

وقوله إذا حلفتم أي إذا حلفتم وأردتم التحلل مما حلفتم عليه [ ص: 20 ] فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفارة على صدور الحلف ، بل على عدم العمل بالحلف ; لأن معنى الكفارة يقتضي حصول إثم ، وذلك هو إثم الحنث .

وعن الشافعي أنه استدل بقوله كفارة أيمانكم إذا حلفتم على جواز تقديم الكفارة على وقوع الحنث ، فيحتمل أنه أخذ بظاهر إضافة كفارة إلى أيمانكم ، ويحتمل أنه أراد أن الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفر قبل الحنث لأنه من تقديم العوض ، ولا بأس به . ولا أحسب أنه يعني غير ذلك . وليس مراده أن مجرد الحلف هو موجب الكفارة . وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحة تقديم الكفارة . وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث . ولم يستدل بالآية . فاستدل بها الشافعي تأييدا للسنة . والتكفير بعد الحنث أولى .

وعقب الترخيص الذي رخصه الله للناس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال واحفظوا أيمانكم . فأمر بتوخي البر إذا لم يكن فيه حرج ولا ضر بالغير ، لأن في البر تعظيم اسم الله تعالى . فقد ذكرنا في سورة البقرة أنهم جرى معتادهم بأن يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر ، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلا يندموا عن عزمهم ، فكان في قوله واحفظوا أيمانكم زجر لهم عن تلك العادة السخيفة . وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلا يعرض الحالف نفسه للحنث . والكفارة ما هي إلا خروج من الإثم . وقد قال تعالى لأيوب عليه السلام وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث . فنزهه عن الحنث بفتوى خصه بها .

وجملة كذلك يبين الله لكم آياته تذييل . ومعنى كذلك كهذا البيان يبين الله ، فتلك عادة شرعه أن يكون بينا . وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .

[ ص: 21 ] وتقدم القول في معنى لعلكم تشكرون عند قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية