صفحة جزء
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم .

جواب عن قول عيسى ، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار .

[ ص: 118 ] والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة .

وجملة ينفع الصادقين صدقهم مضاف إليها يوم ، أي هذا يوم نفع الصدق . وقد قرأ غير نافع من العشرة ( يوم ) مضموما ضمة رفع لأنه خبر هذا . وقرأه نافع مفتوحا على أنه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية . وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوغ بناءه على الفتح ، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر ، كقول النابغة :


على حين عاتبت المشيب على الصبا

وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية ، وهو التحقيق . وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أن مضمونها يحصل فيه ، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذ . وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا ، فنفع كليهما يظهر يومئذ; فأما نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه ، وأما نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنب غضبه على الذي يكذبه فلا حيرة في معنى الآية .

والمراد بـ ( الصادقين ) الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه . ومن أول مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر مما قام عليه الدليل العقلي أو الشرعي . قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .

ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أن ذلك اليوم يوم الحق فالصادق ينتفع فيه بصدقه ، لأن الصدق حسن فلا يكون له في الحق إلا الأثر الحسن ، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحق والباطل فإن الحق قد يجر ضرا لصاحبه بتحريف الناس للحقائق ، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطلع عليه أحد . وأما ما يترتب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة . وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حسن مغبته في الدنيا .

[ ص: 119 ] ومعنى نفع الصدق أنه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبر عنه حسن فيكون نفعا محضا وعليه جزاءان ، كما في قول عيسى : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إلى آخره ، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإن الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحا لأنه قد حصل قبيحا سواء أخبر عنه أم لم يخبر . وكان لقبحه مستحقا أثرا قبيحا مثله . وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخف عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه .

وجملة ( لهم جنات ) مبينة لجملة ( ينفع ) باعتبار أنها أكمل أحوال نفع الصدق . وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات ، وخالدين حال . وكذلك جملة رضي الله عنهم ورضوا عنه .

ومعنى رضوا عنه المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنة ورضوانه . وأصل الرضا أنه ضد الغضب ، فهو المحبة وأثرها من الإكرام والإحسان . فرضى الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبته في قوله يحبهم . ورضى الخلق عن الله هو محبته وحصول ما أملوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلع .

واسم الإشارة في قوله ذلك لتعظيم المشار إليه ، وهو الجنات والرضوان .

التالي السابق


الخدمات العلمية