قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون   . 
استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالصبر ، ووعده بالنصر ، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر ، ووعده بإيمان فرق منهم بقوله : 
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى إلى قوله يسمعون . وقد تهيأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجة المشركين في إبطال شركهم ، وإبطال إنكارهم رسالة 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله : 
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلى هنا . 
و ( قد ) تحقيق للخبر الفعلي ، فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة ( إن ) في تحقيق الجملة الاسمية . فحرف ( قد ) مختص بالدخول على الأفعال المتصرفة الخبرية المثبتة المجردة من ناصب وجازم وحرف تنفيس ، ومعنى التحقيق ملازم له . والأصح أنه كذلك سواء كان مدخولها ماضيا أو مضارعا ، ولا يختلف معنى ( قد ) بالنسبة للفعلين . وقد شاع عند كثير من النحويين أن ( قد ) إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل . وقال بعضهم : إنه مأخوذ من كلام 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  ، ومن ظاهر كلام الكشاف في هذه الآية . والتحقيق أن كلام 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  لا يدل إلا على أن ( قد ) يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية . وهذا هو الذي استخلصته من كلامهم وهو المعول عليه عندي . ولذلك فلا فرق بين دخول ( قد ) على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول ، كما صرح به 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  في تفسير قوله تعالى 
قد يعلم ما أنتم عليه في سورة النور . فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن   
[ ص: 197 ] كان الفعل الذي بعد ( قد ) فعل مضي ، وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد ( قد ) فعلا مضارعا مع ما يضم إلى التحقيق من دلالة المقام ، مثل تقريب زمن الماضي من الحال في نحو : قد قامت الصلاة . وهو كناية تنشأ عن التعرض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشك السامع في أنه يقع ، ومثل إفادة التكثير مع المضارع تبعا لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدد ، كالبيت الذي نسبه 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  للهذلي  ، وحقق 
 nindex.php?page=showalam&ids=12988ابن بري  أنه 
لعبيد بن الأبرص  ، وهو : 
قد أترك القرن مصفرا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصـاد 
وبيت 
زهير    : 
أخا ثقة لا تهلك الخمر ماله     ولكنه قد يهلك المال نائله 
وإفادة استحضار الصورة ، كقول 
كعب    : 
لقد أقوم مقاما لو يقوم به     أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل 
لظل يرعد إلا أن يكون له     من الرسول بإذن الله تنويل 
أراد تحقيق حضوره لدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء . 
والتحقيق أن كلام 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  بريء مما حملوه ، وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلا من فهم 
ابن مالك  لكلام 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه    . وقد رده عليه 
أبو حيان  ردا وجيها . 
فمعنى الآية علمنا بأن الذي يقولونه يحزنك محققا فتصبر . وقد تقدم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى 
قد نرى تقلب وجهك في السماء في سورة البقرة ، فكان فيه إجمال وأحلت على تفسير آية سورة الأنعام ، فهذا الذي استقر عليه رأيي . 
وفعل نعلم معلق عن العمل في مفعولين بوجود اللام .  
[ ص: 198 ] والمراد بـ ( الذي يقولون ) أقوالهم الدالة على عدم تصديقهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما دل عليه قوله بعده ولقد كذبت رسل ، فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيها للرسول عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطفا معه . 
وقرأ 
نافع ،  وأبو جعفر  ليحزنك بضم الياء وكسر الزاي . وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي . يقال : أحزنت الرجل بهمزة تعدية لفعل حزن ، ويقال : حزنته أيضا . وعن 
الخليل    : أن حزنته ، معناه جعلت فيه حزنا كما يقال : دهنته . وأما التعدية فليست إلا بالهمزة . قال 
أبو علي الفارسي    : حزنت الرجل ، أكثر استعمالا ، وأحزنته ، أقيس . و ( الذي يقولون ) هو قولهم ساحر ، مجنون ، كاذب ، شاعر . فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازا أو تحاشيا عن التصريح به في جانب المنزه عنه . 
والضمير المجعول اسم ( إن ) ضمير الشأن ، واللام لام القسم ، وفعل ( يحزنك ) فعل القسم ، و ( الذي يقولون ) فاعله ، واللام في ( ليحزنك ) لام الابتداء ، وجملة ( يحزنك ) خبر إن ، وضمائر الغيبة راجعة إلى الذين كفروا في قوله ثم 
الذين كفروا بربهم يعدلون   . 
والفاء في قوله ( فإنهم ) يجوز أن تكون للتعليل ، والمعلل محذوف دل عليه قوله ( قد نعلم ) ، أي فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك ، أي لأنهم لا يكذبونك . ويجوز كونها للفصيحة ، والتقدير : فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنهم لا يكذبونك ، فالله قد سلى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن أخبره بأن المشركين لا يكذبونه ولكنهم أهل جحود ومكابرة . وكفى بذلك تسلية . ويجوز أن تكون للتفريع على قد نعلم ، أي فعلمنا بذلك يتفرع عليه أنا نثبت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنهم لا يكذبونك ، وبأن نذكرك بسنة الرسل من قبلك ، ونذكرك بأن العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله . 
وقرأ 
نافع  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي  ، 
وأبو جعفر    ( 
لا يكذبونك   ) ، بسكون الكاف وتخفيف الذال . وقرأه الجمهور بفتح الكاف وتشديد الذال . وقد قال بعض أئمة اللغة إن أكذب وكذب بمعنى واحد ، أي نسبه إلى الكذب . وقال بعضهم : أكذبه ، وجده كاذبا ،   
[ ص: 199 ] كما يقال : أحمده ، وجده محمودا . وأما كذب بالتشديد فهو لنسبة المفعول إلى الكذب . وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي    : أن أكذبه هو بمعنى كذب ما جاء به ولم ينسب المفعول إلى الكذب ، وأن كذبه هو نسبه إلى الكذب . وهو معنى ما نقل عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج  معنى كذبته ، قلت له : كذبت ، ومعنى أكذبته ، أريته أن ما أتى به كذب . 
وقوله : 
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون استدراك لدفع أن يتوهم من قوله : 
لا يكذبونك على قراءة نافع ومن وافقه أنهم صدقوا وآمنوا ، وعلى قراءة البقية 
لا يكذبونك أنهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أن الواقع خلاف ذلك ، فاستدرك عليه بأنهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتي بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذبين في نفوسهم . 
والجحد والجحود ، الإنكار للأمر المعروف ، أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر ، فهو نفي ما يعلم النافي ثبوته ، فهو إنكار مكابرة . 
وعدل عن الإضمار إلى قوله : 
ولكن الظالمين ذما لهم وإعلاما بأن شأن الظالم الجحد بالحجة ، وتسجيلا عليهم بأن الظلم سجيتهم . 
وعدى يجحدون بالباء كما عدي في قوله 
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم لتأكيد تعلق الجحد بالمجحود ، كالباء في قوله تعالى : 
وامسحوا برءوسكم ، وفي قوله : 
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، وقول 
النابغة    : 
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا     وأصبح جد الناس يظلـع عـاثـرا 
ثم إن الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الآيات . وجحدها إنكار أنها من آيات الله ، أي تكذيب الآتي بها في قوله : إنها من عند الله ، فآل ذلك إلى أنهم يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام . فكيف يجمع هذا مع قوله 
فإنهم لا يكذبونك على قراءة الجمهور . والذي يستخلص من سياق الآية أن المراد فإنهم لا يعتقدون أنك كاذب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام معروف عندهم بالصدق وكان يلقب بينهم بالأمين . وقد قال 
النضر بن الحارث  لما تشاورت 
قريش  في شأن الرسول : يا معشر 
قريش  قد كان 
محمد  فيكم غلاما أرضاكم   
[ ص: 200 ] فيكم وأصدقكم حديثا حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هو بأولئكم . ولأن الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنها من عند الله ، ولأن دلائل صدقه بينة واضحة ولكنكم ظالمون . 
والظالم هو الذي يجري على خلاف الحق بدون شبهة . فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنه الحق ، وذلك هو الجحود . وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم . ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون 
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فيكون في الآية احتباك . والتقدير : فإنهم لا يكذبونك ولا يكذبون الآيات ولكنهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك ، فحذف من كل لدلالة الآخر . 
وأخرج 
الترمذي  عن 
ناجية بن كعب  التابعي 
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341702أن أبا جهل  قال للنبيء - صلى الله عليه وسلم - لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به . فأنزل الله فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون   . ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية . لأن 
أبا جهل  إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء ، كما قال 
ابن العربي  في العارضة : ذلك أنه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة ، فقوله : لا نكذبك ، استهزاء بإطماع التصديق .