وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون   . 
لما أعلن 
إبراهيم  عليه السلام معتقده لقومه أخذوا في محاجته ، فجملة وحاجه عطف على جملة 
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض   . 
وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلة بالإخبار بمضمونها مع أن تفرع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام .  
[ ص: 326 ] والمحاجة مفاعلة متصرفة من الحجة ، وهي الدليل المؤيد للدعوى . ولا يعرف لهذه المفاعلة فعل مجرد بمعنى استدل بحجة ، وإنما المعروف فعل حج إذا غلب في الحجة ، فإن كانت احتجاجا من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل ، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أن محاول الغلب في الحجة لا بد أن يتلقى من خصمه ما يرد احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين ، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجة ، أو المفاعلة فيه للمبالغة . والأولى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجة بينهم وبين 
إبراهيم    . 
وذكر 
الشيخ ابن عرفة  في درس تفسيره : أن صيغة المفاعلة تقتضي أن المجعول فيها فاعلا هو البادئ بالمحاجة ، وأن بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة البقرة 
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حيث قال 
إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت   . فبدأ بكلام 
إبراهيم  وهو مفعول الفعل وأجاب بأن 
إبراهيم  بدأ بالمقاولة 
ونمروذ  بدأ المحاجة . ولم يذكر أئمة اللغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة . ويجوز أن يكون المراد هنا أنهم سلكوا معه طريق الحجة على صحة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع ، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجة . وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلق به غرض لأن الغرض هو الاعتبار بثبات 
إبراهيم  على الحق . وحذف متعلق حاجه لدلالة المقام ، ودلالة ما بعده عليه من قوله 
أتحاجوني في الله الآيات . 
وقد ذكرت حججهم في مواضع من القرآن ، منها قوله في سورة الأنبياء 
إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين إلى قوله 
وأنا على ذلكم من الشاهدين ، وقوله في سورة الشعراء قال 
هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون الآيات ، وفي سورة الصافات 
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون إلى قوله 
فجعلناهم الأسفلين وكلها محاجة حقيقية ، ويدخل في المحاجة ما ليس   
[ ص: 327 ] بحجة ولكنه مما يرونه حججا بأن خوفوه غضب آلهتهم ، كما يدل عليه قوله 
ولا أخاف ما تشركون به الآية . والتقدير : وحاجه قومه فقالوا : كيت وكيت . 
وجملة 
قال أتحاجوني في الله جواب محاجتهم ، ولذلك فصلت ، على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى 
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة في سورة البقرة ، فإن كانت المحاجة على حقيقة المفاعلة فقوله أتحاجوني غلق لباب المجادلة وختم لها ، وإن كانت المحاجة مستعملة في الاحتجاج فقوله أتحاجوني جواب لمحاجتهم ، فيكون كقوله تعالى 
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله   . 
والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم . 
و ( في ) لظرفية المجازية متعلقة بـ " تحاجوني " ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف ، لأن المحاجة لا تكون في الذوات ، فتعين تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدالة على أنه واحد ، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى 
يجادلنا في قوم لوط أي في استئصالهم . 
وجملة وقد هداني حال مؤكدة للإنكار ، أي لا جدوى لمحاجتكم إياي بعد أن هداني الله إلى الحق ، وشأن الحال المؤكدة للإنكار أن يكون اتصاف صاحبها بها معروفا عند المخاطب . فالظاهر أن 
إبراهيم  نزلهم في خطابه منزلة من يعلم أن الله هداه كناية على ظهور دلائل الهداية . 
وقرأ 
نافع ،  وابن عامر ،  وأبو جعفر  أتحاجوني بنون واحدة خفيفة وأصله أتحاجونني بنونين فحذفت إحداهما للتخفيف ، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار 
أبي علي الفارسي    . قال : لأن الأولى نون الإعراب وأما الثانية فهي موطئة لياء المتكلم فيجوز حذفها تخفيفا ، كما قالوا ، ليتي في ليتني . وذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  أن المحذوفة هي الأولى لأن الثانية جلبت لتحمل الكسرة المناسبة للياء ، ونون الرفع لا تكون مكسورة ، وأيا ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف .   
[ ص: 328 ] وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء    : أن هذه القراءة لحن ، فإن صح ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه ، أو أخطأ من عزاه إليه . وقرأه البقية بتشديد النون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضا ، ولذلك تمد الواو لتكون المدة فاصلة بين التقاء الساكنين ، لأن المدة خفة وهذا الالتقاء هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حدة . 
وحذفت ياء المتكلم في قوله وقد هدان للتخفيف وصلا ووقفا في قراءة 
نافع  من رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=16810قالون ،  وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة . وقد تقدم في قوله تعالى 
أجيب دعوة الداع إذا دعان   . 
وقوله ولا أخاف ما تشركون به معطوف على أتحاجوني فتكون إخبارا ، أو على جملة وقد هدان فتكون تأكيدا للإنكار . وتأكيد الإنكار بها أظهر منه لقوله وقد هدان لأن عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه . فقومه إما عالمون به أو منزلون منزلة العالم ، كما تقدم في قوله وقد هدان ، وهو يؤذن بأنهم حاجوه في التوحيد وخوفوه بطش آلهتهم ومسهم إياه بسوء ، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجتهم إياه وبين نفي خوفه من آلهتهم ، ولا بين هدى الله إياه وبين نفي خوفه آلهتهم ، فتعين أنهم خوفوه مكر آلهتهم . ونظير ذلك ما حكاه الله عن 
قوم هود  إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء   . 
و ما من قوله " ما تشركون به " موصولة ما صدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهية . 
والضمير في قوله به يجوز أن يكون عائدا على اسم الجلالة فتكون الباء لتعدية فعل تشركون ، وأن يكون عائدا إلى ما الموصولة فتكون الباء سببية ، أي الأصنام التي بسببها أشركتم . 
وقوله 
إلا أن يشاء ربي شيئا استثناء مما قبله وقد جعله 
ابن عطية  استثناء منقطعا بمعنى لكن . وهو ظاهر كلام 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ،  وهو الأظهر فإنه لما نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهم منه السامعون أنه لا يخاف شيئا   
[ ص: 329 ] استدرك عليه بما دل عليه الاستثناء المنقطع ، أي لكن أخاف مشيئة ربي شيئا مما أخافه ، فذلك أخافه . وفي هذا الاستدراك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنه يخشى ربه المستحق للخشية إن كان قومه لا يعترفون برب غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدمين . 
وجعل 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  ومتابعوه الاستثناء متصلا مفرغا عن مستثنى منه محذوف دل عليه الكلام ، فقدره 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  من أوقات ، أي لا أخاف ما تشركون به أبدا ، لأن الفعل المضارع المنفي يتعلق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنه كالنكرة المنفية ، أي إلا وقت مشيئة ربي شيئا أخافه من شركائكم ، أي بأن يسلط ربي بعضها علي فذلك من قدرة ربي بواسطتها لا من قدرتها علي . وجوز 
أبو البقاء  أن يكون المستثنى منه أحوالا عامة ، أي إلا حال مشيئة ربي شيئا أخافه منها . 
وجملة 
وسع ربي كل شيء علما استئناف بياني لأنه قد يختلج في نفوسهم : كيف يشاء ربك شيئا تخافه وأنت تزعم أنك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلا شك في أمرك ، فلذلك فصلت ، أي إنما لم آمن إرادة الله بي ضرا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنه أعلم بحكمة إلحاق الضر . أو النفع بمن يشاء من عباده . وهذا مقام أدب مع الله تعالى 
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون   . 
وجملة أفلا تتذكرون معطوفة على جملة 
أتحاجوني في الله وقد هدان   . 
وقدمت همزة الاستفهام على فاء العطف . 
والاستفهام إنكار لعدم تذكرهم مع وضوح دلائل التذكر . والمراد التذكر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية ، وفي صفات الإله الحق التي دلت عليها مصنوعاته .