1. الرئيسية
  2. التحرير والتنوير
  3. سورة الأنعام
  4. قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها
صفحة جزء
[ ص: 369 ] وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون .

وهذا كتاب عطف على جملة قل الله ، أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسى وهذا كتاب أنزلناه .

والإشارة إلى القرآن لأن المحاولة في شأنه من ادعائهم نفي نزوله من عند الله ، ومن تبكيتهم بإنزال التوراة ، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد ، فأتى باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان .

وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز ، وبناء فعل أنزلنا على خبر اسم الإشارة ، وهو كتاب الذي هو عينه في المعنى ، لإفادة التقوية ، كأنه قيل : وهذا أنزلناه .

وجعل كتاب الذي حقه أن يكون مفعول أنزلنا مسندا إليه ، ونصب فعل " أنزلنا " لضميره ، لإفادة تحقيق إنزاله بالتعبير عنه مرتين ، وذلك كله للتنويه بشأن هذا الكتاب .

وجملة أنزلناه يجوز أن تكون حالا من اسم الإشارة ، أو معترضة بينه وبين خبره . و مبارك خبر ثان . والمبارك اسم مفعول من باركه ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، وبارك له ، إذا جعل له البركة . والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال : باركه . قال تعالى أن بورك من في النار ومن حولها ، ويقال : بارك فيه ، قال تعالى وبارك فيها .

ولعل قولهم ( بارك فيه ) إنما يتعلق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه ، وأما ( باركه ) فيتعلق به ما كانت البركة صفة له ، و ( بارك [ ص: 370 ] عليه ) جعل البركة متمكنة منه ، ( وبارك له ) جعل أشياء مباركة لأجله ، أي بارك فيما له .

والقرآن مبارك لأنه يدل على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأن البركة جعلت في ألفاظه ، ولأن الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدنيا وفي الآخرة ، ولأنه مشتمل على ما في العمل به كمال النفس وطهارتها بالمعارف النظرية ثم العملية . فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه . قال فخر الدين قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه ( أي عن هذا الكتاب ) المتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة . وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدنيا مثل ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم ( يعني التفسير ) .

و مصدق خبر عن كتاب بدون عطف .

والمصدق تقدم عند قوله تعالى مصدقا لما بين يديه في سورة البقرة ، وقوله ومصدقا لما بين يدي في سورة آل عمران . و الذي من قوله الذي بين يديه اسم موصول مراد به معنى جمع . وإذ قد كان جمع الذي وهو الذين لا يستعمل في كلام العرب إلا إذا أريد به العاقل وشبهه ، نحو إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفا . فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلا الذي المفرد ، نحو قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون .

والمراد بـ الذي بين يديه ما تقدمه من كتب الأنبياء ، وأخصها التوراة والإنجيل والزبور ، لأنها آخر ما تداوله الناس من الكتب المنزلة على الأنبياء ، وهو مصدق الكتب النازلة قبل هذه الثلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى .

ومعنى كون القرآن مصدقها من وجهين ؛ أحدهما أن في هذه الكتب الوعد [ ص: 371 ] بمجيء الرسول المقفى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودل على أنها من عند الله .

وثانيهما أن القرآن مصدق أنبيائها وصدقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدين والشريعة . ثم إن ما جاء به من الأحكام التي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها . وأما ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشريعة فذلك قد يبين فيه أنه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأن الله أراد التيسير بهذه الأمة .

ومعنى بين يديه ما سبقه . وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه في سورة البقرة ، وعند قوله ومصدقا لما بين يدي من التوراة في سورة آل عمران .

وأما جملة ولتنذر أم القرى فوجود واو العطف في أولها مانع من تعليق لتنذر بفعل أنزلناه ، ومن جعل المجرور خبرا عن كتاب خلافا للتفتزاني ، إذ الخبر إذا كان مجرورا لا يقترن بواو العطف ، ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التعليل مع الواو مانع من جعلها خبرا آخر لـ كتاب ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنه معطوف على مقدر ينبئ عنه السياق . والتقدير : ليؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين . ومثل هذا التقدير يطرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدر . وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح . ونظيره قوله تعالى هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب في سورة إبراهيم .

ووقع في الكشاف أن ولتنذر معطوف على ما دلت عليه صفة الكتاب ، كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار ا هـ . وهذا وإن استتب في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأن لفظ بلاغ اسم ليس [ ص: 372 ] فيه ما يشعر بالتعليل ، و للناس متعلق به ، واللام فيه للتبليغ لا للتعليل ، فتعين تقدير شيء بعده نحو : لينتبهوا أو لئلا يؤخذوا على غفلة ولينذروا به .

والإنذار : الإخبار بما فيه توقع ضر ، وضده البشارة . وقد تقدم عند قوله تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا في سورة البقرة . واقتصر عليه لأن المقصود تخويف المشركين إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء .

وأم القرى : مكة ، وأم الشيء استعارة شائعة في الأمر الذي يرجع إليه ويلتف حوله ، وحقيقة الأم الأنثى التي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأم للأصل والمرجع حتى صارت حقيقة ، ومنه سميت الراية أما ، وسمي أعلى الرأس أم الرأس ، والفاتحة أم القرآن . وقد تقدم ذلك في تسمية الفاتحة . وإنما سميت مكة أم القرى لأنها أقدم القرى وأشهرها وما تقرت القرى في بلاد العرب إلا بعدها ، فسماها العرب أم القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكان خيام .

وإنذار أم القرى بإنذار أهلها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى واسأل القرية ، وقد دل عليه قوله ومن حولها ، أي القبائل القاطنة حول مكة مثل خزاعة ، وسعد بن بكر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة .

ووجه الاقتصار على أهل مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم من قوله وكذب به قومك وهو الحق ، إذ السورة مكية وليس في التعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتى نتكلف الادعاء أن من حولها مراد به جميع أهل الأرض .

وقرأ الجمهور ولتنذر أم القرى بالخطاب ، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم ( ولينذر ) بياء الغائب على أن يكون الضمير عائدا إلى ( كتاب ) .

وقوله والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به احتراس من شمول الإنذار المؤمنين الذين هم يومئذ بمكة وحولها ، المعروفون بهذه الصلة دون غيرهم من [ ص: 373 ] أهل مكة ، ولذلك عبر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللقب لهم ، وهو مميزهم عن أهل الشرك لأن أهل الشرك أنكروا الآخرة .

وليس في هذا الموصول إيذان بالتعليل ، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنهم لم يكونوا من أهل مكة يومئذ .

وأخبر عن المؤمنين بأنهم يؤمنون بالقرآن تعريضا بأنهم غير مقصودين بالإنذار ، فيعلم أنهم أحقاء بضده وهو البشارة .

وزادهم ثناء بقوله وهم على صلاتهم يحافظون إيذانا بكمال إيمانهم وصدقه ، إذ كانت الصلاة هي العمل المختص بالمسلمين ، فإن الحج كان يفعله المسلمون والمشركون ، وهذا كقوله هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ولم يكن الحج مشروعا للمسلمين في مدة نزول هذه السورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية