صفحة جزء
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

أعقب ذكر عناد المشركين ، وعداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وولايتهم للشياطين ، ورضاهم بما توسوس لهم شياطين الجن والإنس ، واقترافهم السيئات طاعة [ ص: 23 ] لأوليائهم ، وما طمأن به قلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه لقي سنة الأنبياء قبله من آثار عداوة شياطين الإنس والجن ، بذكر ما يهون على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ما يرونه من كثرة المشركين وعزتهم ، ومن قلة المسلمين وضعفهم ، مع تحذيرهم من الثقة بقولهم ، والإرشاد إلى مخالفتهم في سائر أحوالهم ، وعدم الإصغاء إلى رأيهم ؛ لأنهم يضلون عن سبيل الله ، وأمرهم بأن يلزموا ما يرشدهم الله إليه . فجملة وإن تطع متصلة بجملة ( وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا شياطين الإنس والجن ) وبجملة أفغير الله أبتغي حكما وما بعدها إلى ( وهو السميع العليم .

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ، والمقصود به المسلمون مثل قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك .

وجيء مع فعل الشرط بحرف ( إن ) الذي الأصل فيه أن يكون في الشرط النادر الوقوع ، أو الممتنع إذا كان ذكره على سبيل الفرض كما يفرض المحال ، والظاهر أن المشركين لما أيسوا من ارتداد المسلمين ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا الآية ، جعلوا يلقون على المسلمين الشبه والشكوك في أحكام دينهم ، كما أشار إليه قوله تعالى عقب هذا : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .

وقد روى الطبري ، عن ابن عباس ، وعكرمة : أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها - يريدون أكل الشاة إذا ماتت حتف أنفها دون ذبح - قال : الله قتلها ، فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام ! فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء .

وفي سنن الترمذي ، عن ابن عباس : قال : أتى أناس النبيء صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله [ ص: 24 ] فأنزل الله ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) الآية ، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، فمن هذا ونحوه حذر الله المسلمين من هؤلاء ، وثبتهم على أنهم على الحق ، وإن كانوا قليلا ، كما تقدم في قوله : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث .

والطاعة : اسم للطوع الذي هو مصدر طاع يطوع ، بمعنى انقاد ، وفعل ما يؤمر به عن رضا دون ممانعة ، فالطاعة ضد الكره ، ويقال : طاع وأطاع ، وتستعمل مجازا في قبول القول ، ومنه ما جاء في الحديث فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم ، ومنه قوله تعالى : ولا شفيع يطاع أي : يقبل قوله ، وإلا فإن المشفوع إليه أرفع من الشفيع ، فليس المعنى أنه يمتثل إليه ، والطاعة هنا مستعملة في هذا المعنى المجازي وهو قبول القول .

و أكثر من في الأرض هم أكثر سكان الأرض .

والأرض : يطلق على جميع الكرة الأرضية التي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنبات ، وهي الدنيا كلها ، ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضية معهود بين المخاطبين وهو إطلاق شائع كما في قوله تعالى : وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض يعني الأرض المقدسة ، وقوله : أو ينفوا من الأرض أي : الأرض التي حاربوا الله فيها ، والأظهر أن المراد في الآية المعنى المشهور وهو جميع الكرة الأرضية كما هو غالب استعمالها في القرآن ، وقيل : أريد بها مكة ؛ لأنها الأرض المعهودة للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأيا ما كان فأكثر من في الأرض ضالون مضلون ، أما الكرة الأرضية فلأن جمهرة سكانها أهل عقائد ضالة ، وقوانين غير عادلة .

فأهل العقائد الفاسدة في أمر الإلهية : كالمجوس ، والمشركين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة الكواكب ، والقائلين بتعدد الإله ؛ وفي أمر النبوة : كاليهود والنصارى ؛ [ ص: 25 ] وأهل القوانين الجائرة من الجميع ، وكلهم إذا أطيع إنما يدعو إلى دينه ونحلته ، فهو مضل عن سبيل الله ، وهم متفاوتون في هذا الضلال كثرة وقلة ، واتباع شرائعهم لا يخلو من ضلال وإن كان في بعضها بعض من الصواب ، والقليل من الناس من هم أهل هدى ، وهم يومئذ المسلمون ، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام من الموحدين الصالحين في مشارق الأرض ومغاربها الطالبين للحق .

وسبب هذه الأكثرية أن الحق والهدى يحتاج إلى عقول سليمة ، ونفوس فاضلة ، وتأمل في الصالح والضار ، وتقديم الحق على الهوى ، والرشد على الشهوة ، ومحبة الخير للناس ؛ وهذه صفات إذا اختل واحد منها تطرق الضلال إلى النفس بمقدار ما انثلم من هذه الصفات ، واجتماعها في النفوس لا يكون إلا عن اعتدال تام في العقل والنفس ، وذلك بتكوين الله وتعليمه ، وهي حالة الرسل والأنبياء ، أو بإلهام إلهي كما كان أهل الحق من حكماء اليونان وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية ، وقد يسمونها الذوق ، أو عن اقتداء بمرشد معصوم كما كان عليه أصحاب الرسل والأنبياء وخيرة أممهم ؛ فلا جرم كان أكثر من في الأرض ضالين وكان المهتدون قلة ، فمن اتبعهم أضلوه .

والآية لم تقتض أن أكثر أهل الأرض مضلون ؛ لأن معظم أهل الأرض غير متصدين لإضلال الناس ، بل هم في ضلالهم قانعون بأنفسهم ، مقبلون على شأنهم ؛ وإنما اقتضت أن أكثرهم ، إن قبل المسلم قولهم ، لم يقولوا له إلا ما هو تضليل ؛ لأنهم لا يلقون عليه إلا ضلالهم ، فالآية تقتضي أن أكثر أهل الأرض ضالون بطريق الالتزام ؛ لأن المهتدي لا يضل متبعه ، وكل إناء يرشح بما فيه ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في آية سورة العقود : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث .

واعلم أن هذا لا يشمل أهل الخطأ في الاجتهاد من المسلمين ؛ لأن المجتهد [ ص: 26 ] في مسائل الخلاف يتطلب مصادفة الصواب باجتهاده ، بتتبع الأدلة الشرعية ولا يزال يبحث عن معارض اجتهاده ، وإذا استبان له الخطأ رجع عن رأيه ، فليس في طاعته ضلال عن سبيل الله ؛ لأن من سبيل الله طرق النظر والجدل في التفقه في الدين .

وقوله : يضلوك عن سبيل الله تمثيل لحال الداعي إلى الكفر والفساد من يقبل قوله ، بحال من يضل مستهديه إلى الطريق ، فينعت له طريقا غير الطريق الموصلة ، وهو تمثيل قابل لتوزيع التشبيه بأن يشبه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها ، وإضافة السبيل إلى اسم الله قرينة على الاستعارة ، وسبيل الله هو أدلة الحق ، أو هو الحق نفسه .

ثم بين الله سبب ضلالهم وإضلالهم بأنهم ما يعتقدون ويدينون إلا عقائد ضالة ، وأديانا سخيفة ، ظنوها حقا لأنهم لم يستفرغوا مقدرة عقولهم في ترسم أدلة الحق ، فقال : ( إن يتبعون إلا الظن .

والاتباع : مجاز في قبول الفكر لما يقال وما يخطر للفكر من الآراء والأدلة وتقلد ذلك ، فهذا أتم معنى الاتباع ، على أن الاتباع يطلق على عمل المرء برأيه كأنه يتبعه .

والظن في اصطلاح القرآن ، هو الاعتقاد المخطئ عن غير دليل ، الذي يحسبه صاحبه حقا وصحيحا ، قال تعالى : وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ومنه قول النبيء صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وليس هو الظن الذي اصطلح عليه فقهاؤنا في الأمور التشريعية ، فإنهم أرادوا به العلم الراجح في النظر ، مع احتمال الخطأ احتمالا مرجوحا ؛ لتعسر اليقين في الأدلة التكليفية ؛ لأن اليقين فيها إن كان اليقين المراد للحكماء ، فهو متوقف على الدليل المنتهي إلى الضرورة أو البرهان ، وهما لا يجريان إلا في أصول مسائل التوحيد ، وإن [ ص: 27 ] كان بمعنى الإيقان بأن الله أمر أو نهى ، فذلك نادر في معظم مسائل التشريع ، عدا ما علم من الدين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحس ، وهو خاص بما تلقاه بعض الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ، أو حصل بالتواتر ، وهو عزيز الحصول بعد عصر الصحابة والتابعين ، كما علم من أصول الفقه .

وجملة إن يتبعون إلا الظن استئناف بياني ، نشأ عن قوله : يضلوك عن سبيل الله فبين سبب ضلالهم أنهم اتبعوا الشبهة من غير تأمل في مفاسدها ، فالمراد بالظن ظن أسلافهم ، كما أشعر به ظاهر قوله : يتبعون .

وجملة وإن هم إلا يخرصون عطف على جملة إن يتبعون إلا الظن ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة التي قبلها ، أو تفسيرا لها ، فتعين أن المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة ( إن يتبعون إلا الظن .

وقد ترددت آراء المفسرين في محمل قوله : ( وإن هم إلا يخرصون ) فقيل : ( يخرصون ) يكذبون فيما ادعوا أن ما اتبعوه يقين ، وقيل : الظن ؛ ظنهم أن آباءهم على الحق ، والخرص : تقديرهم أنفسهم على الحق .

والوجه : أن محمل الجملة الأولى على ما تلقوه من أسلافهم ، كما أشعر به قوله : ( يتبعون وأن محمل الجملة الثانية على ما يستنبطونه من الزيادات على ما ترك لهم أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلة مفحمة ، كقولهم : كيف نأكل ما قتلناه وقتله الكلب والصقر ، ولا نأكل ما قتله الله كما تقدم آنفا ، كما أشعر به فعل يخرصون من معنى التقدير والتأمل .

[ ص: 28 ] والخرص : الظن الناشئ عن وجدان في النفس مستند إلى تقريب ، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه ، وهو يرادف الحزر والتخمين ، ومنه خرص النخل والكرم ؛ أي : تقدير ما فيه من الثمرة بحسب ما يجده الناظر فيما تعوده . وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة ؛ لأنها ظنون لا دليل عليها غير ما حسن لظانيها ، ومن المفسرين وأهل اللغة من فسر الخرص بالكذب ، وهو تفسير قاصر ، نظر أصحابه إلى حاصل ما يفيده السياق في نحو هذه الآية ، ونحو قوله : قتل الخراصون ؛ وليس السياق لوصف أكثر من في الأرض بأنهم كاذبون ، بل لوصمهم بأنهم يأخذون الاعتقاد من الدلائل الوهمية ، فالخرص ما كان غير علم ، قال تعالى : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ ( يكذبون ) أصرح من لفظ يخرصون .

واعلم أن السياق اقتضى ذم الاستدلال بالخرص ؛ لأنه حزر وتخمين لا ينضبط ، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر . فأخذ به مالك والشافعي ، ومحمله على الرخصة تيسيرا على أرباب النخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة ، فتؤخذ الزكاة منهم على ما يقدره الخرص ، وكذلك في قسمة الثمار بين الشركاء ، وكذلك في العرية يشتريها المعري ممن أعراه ، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخا .

التالي السابق


الخدمات العلمية