صفحة جزء
لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون

الضمير في لهم دار السلام عائد إلى قوم يذكرون .

والجملة إما مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأن الثناء عليهم بأنهم فصلت لهم الآيات ، ويتذكرون بها يثير سؤال من يسأل عن أثر تبيين الآيات لهم وتذكرهم بها ، فقيل : لهم دار السلام .

وإما صفة لقوم يذكرون .

وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكرون لا لغيرهم .

والدار : مكان الحلول والإقامة ، ترادف أو تقارب المحل من الحلول ، وهو مؤنث تقديرا فيصغر على دويرة ، والدار مشتقة من فعل دار يدور ؛ لكثرة دوران أهلها ، ويقال لها : دارة ، ولكن المشهور في الدارة أنها الأرض الواسعة بين جبال .

والسلام : الأمان ، والمراد به هنا الأمان الكامل الذي لا يعتري صاحبه شيء مما يخاف من الموجودات ؛ جواهرها وأعراضها ، فيجوز أن يراد [ ص: 64 ] بـ ( دار السلام ) الجنة ، سميت دار السلام ؛ لأن السلامة الحق فيها ، لأنها قرار أمن من كل مكروه للنفس ، فتمحضت للنعيم الملائم ، وقيل السلام : اسم من أسماء الله تعالى ؛ أي : دار الله ؛ تعظيما لها ، كما يقال للكعبة : بيت الله ، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله ؛ أي : حالة الأمان من غضبه وعذابه ، كقول النابغة :

كم قد أحل بدار الفقر بعد غنـى عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار



و ( عند ) مستعارة للقرب الاعتباري ، أريد به تشريف الرتبة كما دل عليه قوله عقبه : وهو وليهم ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ ؛ لأن الشيء النفيس يجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه ، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم ، وأنه وعد كالشيء المحفوظ المدخر ، كما يقال : إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقا للوعد .

والعدول عن إضافة ( عند ) لضمير المتكلم إلى إضافته للاسم الظاهر : لقصد تشريفهم بأن هذه عطية من هو مولاهم ، فهي مناسبة لفضله وبره بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدم آنفا في قوله تعالى : سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله

وعطف على جملة لهم دار السلام جملة وهو وليهم تعميما لولاية الله إياهم في جميع شئونهم ؛ لأنها من تمام المنة ، والولي يطلق بمعنى الناصر وبمعنى الموالي .

وقوله : بما كانوا يعملون يجوز أن يتعلق بما في معنى الخبر في قوله : لهم دار السلام من مفهوم الفعل ؛ أي : ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون ، فتكون الباء سببية ؛ أي : بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام ، أو الباء للعوض ، أي : لهم ذلك جزاء بأعمالهم ، وتكون جملة وهو وليهم معترضة بين الخبر ومتعلقه ، ويجوز أن يكون : بما كانوا يعملون متعلقا بـ ( وليهم ) أي : وهو ناصرهم ، والباء للسببية ، أي : بسبب أعمالهم [ ص: 65 ] تولاهم ، أو الباء للملابسة ، ويكون بما كانوا يعملون مرادا به جزاء أعمالهم ، على حذف مضاف دل عليه السياق .

وتعريف المسند بالإضافة في قوله : ( وليهم ) أفاد الإعلام بأن الله ولي القوم المتذكرين ، ليعلموا عظم هذه المنة فيشكروها ، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم ، وذلك أن تعريف المسند بالإضافة يخالف طريقة تعريفه بغير الإضافة من طرق التعريف ؛ لأن التعريف بالإضافة أضعف مراتب التعريف ، حتى أنه قد يقرب من التنكير على ما ذكره المحققون من أن أصل وضع الإضافة على اعتبار تعريف العهد ، فلا يقال : غلام زيد ، إلا لغلام معهود بين المتكلم والمخاطب بتلك النسبة ، ولكن الإضافة قد تخرج عن ذلك في الاستعمال فتجيء بمنزلة النكرة المخصوصة بالوصف ، فتقول : أتاني غلام زيد بكتاب منه ، وأنت تريد غلاما له غير معين عند المخاطب ، فيصير المعرف بالإضافة حينئذ كالمعرف بلام الجنس ؛ أي : يفيد تعريفا يميز الجنس من بين سائر الأجناس ، فالتعريف بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللام .

ولهذا لم يكن في قوله : وهو وليهم قصر ولا إفادة حكم معلوم على شيء معلوم .

ومما يزيدك يقينا بهذا قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم فإن عطف وأن الكافرين لا مولى لهم على قوله : بأن الله مولى الذين آمنوا أفاد أن المراد بالأول إفادة ولاية الله للذين آمنوا لا الإعلام بأن من عرف بأنه مولى الذين آمنوا هو الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية