صفحة جزء
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

جواب عن قولهم : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا تكملة للجواب السابق ؛ لأنه زيادة في إبطال قولهم ، وهو يشبه المعارضة في اصطلاح أهل الجدل .

وأعيد فعل الأمر بالقول لاسترعاء الأسماع لما سيرد بعد فعل ( قل ) وقد كرر ثلاث مرات متعاقبة بدون عطف ، والنكتة ما تقدم من كون القول جاريا على طريقة المقاولة .

والفاء فصيحة تؤذن بكلام مقدر هو شرط ، والتقدير : فإن كان قولكم لمجرد اتباع الظن والخرص وسوء التأويل فلله الحجة البالغة .

وتقديم المجرور على المبتدأ لإفادة الاختصاص ؛ أي : لله لا لكم ، ففهم منه أن حجتهم داحضة .

والحجة : الأمر الذي يدل على صدق أحد في دعواه وعلى مصادفة المستدل وجه الحق ، وتقدم القول فيها عند قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة في سورة البقرة .

والبالغة هي الواصلة ؛ أي : الواصلة إلى ما قصدت لأجله ، وهو غلب الخصم ، وإبطال حجته ، كقوله تعالى : حكمة بالغة فالبلوغ استعارة مشهورة لحصول المقصود من الشيء فلا حاجة إلى إجراء استعارة [ ص: 152 ] مكنية في الحجة بأن تشبه بسائر إلى غاية ، وقرينتها إثبات البلوغ ، ولا حاجة أيضا إلى جعل إسناد البلوغ إلى الحجة مجازا عقليا ؛ أي : بالغا صاحبها قصده ؛ لأنه لا محيص من اعتبار الاستعارة في معنى البلوغ ، فالتفسير به من أول وهلة أولى ، والمعنى : لله الحجة الغالبة لكم ؛ أي : وليس استدلالكم بحجة .

والفاء في قوله : فلو شاء فاء التفريع على ظهور حجة الله تعالى عليهم ؛ تفرع على بطلان استدلالهم أن الله لو شاء لهداهم ؛ أي : لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يغير عقولهم فتأتي على خلاف ما هيئت له لكان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصة بهم أو خارق عادة لأجلهم ، إذ لا يعجزه شيء ، ولكن حكمته قضت أن لا يعمم عنايته بل يختص بها بعض خاصته ، وأن لا يعدل عن سنته في الهداية ؛ بوضع العقول وتنبيهها إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة والدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة ، فالمشيئة المقصودة في قوله : فلو شاء لهداكم غير المشيئة المقصودة فيما حكى الله عنهم من قولهم : لو شاء الله ما أشركنا وإلا لكان ما أنكر عليهم قد أثبت نظيره عقب الإنكار فتتناقض المحاجة ؛ لأن الهداية تساوي عدم الإشراك وعدم التحريم ، فلا يصدق جعل كليهما جوابا لـ ( لو ) الامتناعية ، فالمشيئة المقصودة في الرد عليهم هي المشيئة الخفية المحجوبة ، وهي مشيئة التكوين ، والمشيئة المنكرة عليهم هي ما أرادوه من الاستدلال بالواقع على الرضى والمحبة .

هذا وجه تفسير هذه الآية التي كللها من الإيجاز ما شتت أفهاما كثيرة في وجه تفسيرها لا يخفى بعدها عن مطالع التفاسير ، والموازنة بينها وبين ما هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية