وبعهد الله أوفوا 
ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله : 
وبعهد الله أوفوا   . وعهد الله المأمور بالإيفاء به هو كل عهد فيه معنى الانتساب إلى الله الذي   
[ ص: 169 ] اقتضته الإضافة ، إذ الإضافة هنا يصح أن تكون إضافة المصدر إلى الفاعل ، أي ما عهد الله به إليكم من الشرائع ، ويصح أن تكون إلى مفعوله ، أي ما عاهدتم الله أن تفعلوه والتزمتموه وتقلدتموه ، ويصح أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة ، أي العهد الذي أمر الله بحفظه ، وحذر من ختره ، وهو العهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد . ولأجل مراعاة هذه المعاني الناشئة عن صلاحية الإضافة لإفادتها عدل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل ، بأن يقال : وبما عاهدتم الله عليه ، أو نحو ذلك ما لا يحتمل إلا معنى واحدا . وإذ كان الخطاب بقوله : تعالوا للمشركين تعين أن يكون العهد شيئا قد تقررت معرفته بينهم ، وهو العهود التي يعقدونها بالموالاة والصلح أو نحو ذلك ، فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه . وأضيف إلى الله لأنهم كانوا يتحالفون عند التعاقد ولذلك يسمون العهد حلفا قال 
الحارث بن حلزة    : واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم فيه العهود والكفلاء وقال 
عمرو بن كلثوم    : 
ونوجد نحن أمنعهم ذمارا وأوفاهم إذا عقدوا يمينا 
فالآية آمرة لهم بالوفاء ، وكان العرب يتمادحون به . ومن العهود المقررة بينهم : حلف الفضول ، وحلف المطيبين ، وكلاهما كان في الجاهلية على نفي الظلم والجور عن القاطنين 
بمكة  ، وذلك تحقيق لعهد الله 
لإبراهيم  عليه السلام أن يجعل 
مكة  بلدا آمنا ومن دخله كان آمنا ، وقد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين وظلموهم مثل 
عمار ،  وبلال ،  وعامر بن فهيرة ،  ونحوهم ، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أن خفر عهد الله بأمان 
مكة ،  وخفر عهودكم بذلك أولى بأن تحرموه   
[ ص: 170 ] من مزاعمكم الكاذبة فيما حرمتم وفصلتم ، فهذا هو الوجه في تفسير قوله : وبعهد الله أوفوا . 
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد وصرف ذهن السامع عنه ، ليتقرر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء ، أي إن كنتم ترون الوفاء بالعهد مدحة فعهد الله أولى بالوفاء وأنتم قد اخترتموه ، فهذا كقوله تعالى : 
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال : 
وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله   .