صفحة جزء
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين

[ ص: 19 ] عطف على جملة : " ولا تتبعوا " وهذا الخبر مستعمل في التهديد للمشركين الذين وجه إليهم التعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم . وقد ثلث هنا بتمحيض التوجيه إليهم .

وإنما خص بالذكر إهلاك القرى ، دون ذكر الأمم كما في قوله فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ، لأن المواجهين بالتعريض هم أهل مكة وهي أم القرى ، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأن تعليق فعل " أهلكنا " . بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشمول ، فهو مغن عن أدوات الشمول ، فالسامع يعلم أن المراد من القرية أهلها لأن العبرة والموعظة إنما هي بما حصل لأهل القرية ، ونظيرها قوله تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها ونظيرهما معا قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ، فكل هذا من الإيجاز البديع ، والمعنى على تقدير المضاف ، وهو تقدير معنى .

وأجري الضميران في قوله : أهلكناها فجاءها بأسنا على الإفراد والتأنيث مراعاة للفظ قرية ، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متصل القرب ، ثم أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله : أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم . . . إلخ لحصول الفصل بين الضمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية ، وهو بأسنا بياتا لأن بياتا متحمل لضمير البأس ، أي مبيتا لهم ، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال : أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم . و " كم " اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدم في أول سورة الأنعام .

والإهلاك : الإفناء والاستئصال . وفعل أهلكناها يجوز أن يكون مستعملا في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملا في ظاهر معناه .

[ ص: 20 ] والفاء في قوله : " فجاءها بأسنا " عاطفة جملة : " فجاءها بأسنا " على جملة : أهلكناها ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ، ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله ، إذ هو سبب الإهلاك ، عسر على جمع من المفسرين معنى موقع الفاء هنا ، حتى قال الفراء إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا ، وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني . وعن بعضهم أن الكلام جرى على طريقة القلب ، والأصل : جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهو قلب خلي عن النكتة فهو مردود ، والذي فسر به الجمهور : أن فعل أهلكناها مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية أي فإذا أردت القراءة ، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة ، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال : ومن أمثلة المجاز قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ، استعمل قرأت مكان أردت القراءة لكون القراءة مسببة عن إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في فاستعذ بالله ، وقوله وكم من قرية أهلكناها في موضع أردنا إهلاكها بقرينة فجاءها بأسنا والبأس الإهلاك .

والتعبير عن إرادة الفعل بذكر الصيغة التي تدل على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزما لا يتأخر عنه العمل ، بحيث يستعار اللفظ الدال على حصول المراد للإرادة لتشابههما ، وإما الإتيان بحرف التعقيب بعد ذلك فللدلالة على عدم التريث ، فدل الكلام كله على أنه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كل ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التقارب بالتعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتعبير عن حصول السبب بحرف التعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحل غضب [ ص: 21 ] الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيق عليهم المهلة لئلا يتباطئوا في تدارك أمرهم والتعجيل بالتوبة . والذي عليه المحققون أن الترتيب في فاء العطف قد يكون الترتيب الذكري ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه . ففي الآية أخبر عن كيفية إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا الترتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصل على المجمل ، وبذلك سماه ابن مالك في التسهيل ، ومثل له بقوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا الآية . ومنه قوله تعالى : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين أو قوله فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه لأن الإزلال عن الجنة فصل بأنه الإخراج ، وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر وهذا من أساليب الإطناب وقد يغفل عنه .

والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدة الحرب ولذلك سميت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى : والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس في سورة البقرة ، والمراد به هنا عذاب الدنيا .

واستعير المجيء لحدوث الشيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيها لحلول الشيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقل خطواته ، وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا في سورة الأنعام .

والبيات مصدر بات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبيتا لهم ، أي جاءهم ليلا ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلا ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدة الحرب كان المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشد على المغزو ، فكان ترشيحا للاستعارة التمثيلية ، ويجوز أن يكون بياتا منصوبا على النيابة عن ظرف الزمان أي في وقت البيات .

[ ص: 22 ] وجملة : " هم قائلون " حال أيضا لعطفها على بياتا بأو ، وقد كفى هذا الحرف العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال ، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسن ، كما قال في الكشاف ، وهو متابع لعبد القاهر ، وأقول : إن جملة الحال ، إذا كانت جملة اسمية ، فإما أن تكون منحلة إلى مفردين : أحدهما وصف صاحب الحال ، فهذه تجردها عن الواو قبيح ، كما صرح به عبد القاهر وحققه التفتزاني في المطول ، لأن فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة ، نحو جاءني زيد هو فارس ، إذ يغني أن تقول : فارسا .

وأما إذا كانت الجملة اسمية فيها زيادة على وصف صاحب الحال ، وفيها ضمير صاحب الحال ، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإن هذه حالة لكلا الفريقين ، وهذا التحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله : بعضكم لبعض عدو وقولهم في المثال : جاءني زيد هو فارس ، وهو خير مما أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة المفتاح وعبارة ابن الحاجب فتأمله .

وعلل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد .

و " أو " لتقسيم القرى المهلكة إلى مهلكة في الليل ، ومهلكة في النهار ، والمقصود من هذا التقسيم تهديد أهل مكة حتى يكونوا على وجل في كل وقت لا يدرون متى يحل بهم العذاب ، بحيث لا يأمنون في وقت ما .

ومعنى : قائلون كائنون في وقت القيلولة ، وهي القائلة ، وهي اسم للوقت المبتدإ من نصف النهار المنتهي بالعصر ، وفعله : قال يقيل فهو قائل ، والمقيل الراحة في ذلك الوقت ، ويطلق المقيل على القائلة أيضا .

وخص هذان الوقتان من بين أوقات الليل والنهار ؛ لأنهما اللذان [ ص: 23 ] يطلب فيهما الناس الراحة والدعة ، فوقوع العذاب فيهما أشد على الناس ، ولأن التذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذبين تخيل نعيم الوقتين .

والمعنى : وكم من أهل قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم ، فكونوا يا معشر أهل مكة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنكم وإياهم سواء .

وقوله : فما كان دعواهم يصح أن تكون الفاء فيه للترتيب الذكري تبعا للفاء في قوله : فجاءها بأسنا لأنه من بقية المذكور ، ويصح أن يكون للترتيب المعنوي لأن دعواهم ترتبت على مجيء البأس .

والدعوى اسم بمعنى الدعاء كقوله : دعواهم فيها سبحانك اللهم وهو كثير في القرآن . والدعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أن شأن الناس إذا حل بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنهم لم يستغيثوا الله ولا توجهوا إليه بالدعاء ولكنهم وضعوا الاعتراف بالظلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدعوى .

ويجوز أن تكون الدعوى بمعنى الادعاء أي : انقطعت كل الدعاوى التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدد الآلهة وأن دينهم حق ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعا لأن اعترافهم ليس بدعوى .

واقتصارهم على قولهم : إنا كنا ظالمين إما لأن ذلك القول مقدمة التوبة لأن التوبة يتقدمها الاعتراف بالذنب ، فهم اعترفوا على نية أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم - آخر قولهم في الدنيا - مقدمة لشهادة ألسنتهم عليهم في [ ص: 24 ] الحشر ، وإما لأن الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .

وأيا ما كان فإن جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكرهم في ظلمهم في مدة سلامتهم ، ولكن العناد والكبرياء يصدانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن من تصيبه شدة أن يجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضده جرى على لسانه كلام التسخط ومنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم .

والمراد بقولهم : كنا ظالمين أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الآذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراك بالله ، قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء أي أن الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنهم علموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامهم أن مثل ذلك العذاب لا ينزل إلا بالظالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصفة الموعود بها على ألسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقرارا محضا أقروا به في أنفسهم ، فصيغة الخبر مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون أنهم ظالمون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلما رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقرارا مشوبا بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازا صريحا .

وهذا القول يقولونه لغير مخاطب معين ، كشأن الكلام الذي يجري على اللسان عند الشدائد ، مثل الويل والثبور ، فيكون الكلام مستعملا في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التوبيخ ، [ ص: 25 ] والتوقيف على الخطأ ، وإنشاء الندامة ، فيكون مستعملا في المعنى المجازي الصريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قررته آنفا .

والتوكيد بإن لتحقيق الخبر للنفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جاريا مجرى التعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشرك حينئذ الاسم المشعر بمذمته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل .

واسم كان هو : أن قالوا المفرغ له عمل كان ، و دعواهم خبر كان مقدم ، لقرينة عدم اتصال كان بتاء التأنيث ، ولو كان " دعوى " هو اسمها لكان اتصالها بتاء التأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كل موضع جاء فيه المصدر المؤول من أن والفعل محصورا بعد كان ، نحو قوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم غريب ، مطرد في كل ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقق أحدهما في تحقق الآخر لأنهما لما اتحدا في الماصدق ، واستويا في التعريف ، كان المحصور أولى باعتبار التقدم الرتبي ، ويتعين تأخيره في اللفظ ، لأن المحصور لا يكون إلا في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصور . واعلم أن كون أحد الجزأين محصورا دون الآخر في مثل هذا ، مما الجزآن فيه متحدا الماصدق ، إنما هو منوط باعتبار المتكلم أحدهما هو الأصل والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقب من السامع للقصة ابتداء ، واعتبر الدعاء هو المترقب ثانيا ، كأن السامع يسأل : ماذا قالوا لما جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : إنا كنا ظالمين دعاءهم ، فأفيد القول وزيد بأنهم فرطوا في الدعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك [ ص: 26 ] في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم ، على أنه قد قيل : إنه لاطراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من ( أن ) والفعل علة لفظية : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضمير في أنه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقا بأن يكون هو الاسم ، لأن الأصل أن الأعرف من الجزأين وهو الذي يكون مسندا إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية