صفحة جزء
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون عطفت جملة : والوزن يومئذ الحق على جملة " فلنقصن " ، لما تضمنته المعطوف عليها من العلم بحسنات الناس وسيئاتهم ، فلا جرم أشعرت بأن مظهر ذلك العلم وأثره هو الثواب والعقاب ، وتفاوت درجات العاملين ودركاتهم تفاوتا لا يظلم العامل فيه مثقال ذرة ، ولا يفوت ما يستحقه إلا أن يتفضل الله على أحد برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك ، مما الله أعلم به من عباده ، فلذلك عقبت جملة : " فلنقصن " بجملة : والوزن يومئذ الحق فكأنه قيل : فلنقصن عليهم بعلم ولنجازينهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد .

والتنوين في قوله : يومئذ عوض عن مضاف إليه دل عليه : [ ص: 29 ] فلنسألن الذين أرسل إليهم وما عطف عليه بالواو وبالفاء ، والتقدير : يوم إذ نسألهم ونسأل رسلهم ونقص ذنوبهم عليهم .

والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار ، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعين جعلت أجسام أخرى يعرف بها مقدار التفاوت ، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء ، وتسمى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلا واتساعا .

والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تسمى موازين ، واحدها ميزان أيضا وتسمى أوزانا واحدها وزن ، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوه قال تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وفي حديث أبي هريرة ، في الصحيحين : إنه ليؤتى بالعظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال ، كقول الراعي :

وزنت أمية أمرها فدعت له من لم يكن غمرا ولا مجهولا

فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير ما تستحقه الأعمال من الثواب والعقاب تعيينا لا إجحاف فيه ، كتعيين الميزان على حسب ما عين الله من ثواب أو عقاب على الأعمال ، وذلك مما يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصالح لله وكونه رياء ، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونه لمجرد الطمع في الغنيمة ، فيكون الجزاء على قدر العمل ، فالوزن استعارة ، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل : توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ، ينطق أو يتكيف بكيفية فيدل على مقادير الأعمال لأربابها ، وذلك ممكن ، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصح شيء منها .

والعبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات ، لأنها من خوارق المتعارف ، فلا تعدو العبارات فيها تقريب الحقائق وتمثيلها بأقصى [ ص: 30 ] ما تعارفه أهل اللغة ، فما جاء منها بصيغة المصدر غير متعلق بفعل يقتضي آلة فحمله على المجاز المشهور كقوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا . وما جاء منها على صيغة الأسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله : فمن ثقلت موازينه . . . إلخ ، ومثل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان وما تعلق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . وقد ورد في السنة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام ، عند الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديث قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك : فاطلبني عند الميزان خرجه الترمذي .

وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبين مقدار الجزاء من العمل يسمى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة ، فأثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش ، وقالوا : هو القضاء السوي ، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور ، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهور المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش ، والأمر هين ، والاستدلال ليس ببين والمقصود المعنى وليس المقصود آلته .

والإخبار عن الوزن بقوله " الحق " ، إن كان الوزن مجازا عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل ، أي الجزاء عادل غير جائر ؛ لأنه من أنواع القضاء والحكم ، وإن كان الوزن تمثيلا بهيئة الميزان ، فالعدل بمعنى السوي ، أي والوزن يومئذ مساو للأعمال لا يرجح ولا يجحف .

وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقا .

وتفرع على كونه الحق قوله : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون . ومحل التفريع هو قوله : فأولئك هم المفلحون وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك [ ص: 31 ] مفرع على قوله : فمن ثقلت موازينه : ومن خفت موازينه وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشيء الموزون ، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصالحة غالبة ووافرة ، أي من ثقلت موازينه الصالحات ، وإنما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنه معلوم من اعتبار الوزن ، لأن متعارف الناس أنهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن الناس فيها .

والثقل مع تلك الاستعارة هو أيضا ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء ، ثم الخفة مستعارة لعدم الأعمال الصالحة أخذا بغاية الخفة على وزان عكس الثقل ، وهي أيضا ترشيح ثان لاستعارة الميزان ، والمراد هنا الخفة الشديدة وهي انعدام الأعمال الصالحة لقوله : بما كانوا بآياتنا يظلمون .

والفلاح حصول الخير وإدراك المطلوب .

والتعريف في المفلحون للجنس أو العهد وقد تقدم في قوله تعالى : وأولئك هم المفلحون في سورة البقرة .

وماصدق " من " واحد لقوله : موازينه ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معين ، بل هو كل من تحقق فيه مضمون جملة الشرط ، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضميرين من قوله : فأولئك هم المفلحون .

والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنهم إنما حصلوا الفلاح لأجل ثقل موازينهم ، واختير اسم إشارة البعد تنبيها على البعد المعنوي الاعتباري .

وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقق المفلحين ، أي إن علمت جماعة تعرف بالمفلحين فهم هم .

والخسران حقيقته ضد الربح ، وهو عدم تحصيل التاجر على ما يستفضله من بيعه ، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النفع ، فمعنى خسروا أنفسهم [ ص: 32 ] فقدوا فوائدها ، فإن كل أحد يرجو من مواهبه ، وهي مجموع نفسه ، أن تجلب له النفع وتدفع عنه الضر : بالرأي السديد ، وابتكار العمل المفيد ، ونفوس المشركين قد سولت لهم أعمالا كانت سبب خفة موازين أعمالهم ، أي سبب فقد الأعمال الصالحة منهم ، فكانت نفوسهم كرأس مال التاجر الذي رجا منه زيادة الرزق فأضاعه كله فهو خاسر له ، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم ، وانظر ما تقدم في قوله تعالى : الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون في سورة الأنعام . وقوله تعالى : فما ربحت تجارتهم في سورة البقرة .

والباء في قوله : " بما كانوا " باء السببية ، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدنيا ، فصيغة المضارع في قوله يظلمون لحكاية حالهم في تجدد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه .

والظلم هنا ضد العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقها من الصدق . وضمن يظلمون معنى يكذبون ، فلذلك عدي بالباء ، فكأنه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا .

وإنما جعل تكذيبهم ظلما لأنه تكذيب ما قامت الأدلة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلة بدحضها وعدم إعمالها .

وتقديم المجرور في قوله : بآياتنا على عامله ، وهو يظلمون ، للاهتمام بالآيات . وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصالحين وحال المكذبين المشركين إذ كان الناس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين ، وهم كلهم عاملون بالصالحات ، مستكثرون منها ، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصالحات ، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون [ ص: 33 ] عملا صالحا وآخر سيئا ، وذلك لم تتعرض له هذه الآية ، إذ ليس من غرض المقام ، وتعرضت له آيات أخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية