صفحة جزء
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبيء الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون

هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل ، جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي ، تذكيرا لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى - عليه السلام - ، وإيقاظا لأفهامهم بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو مصداق الصفات التي علمها الله موسى .

والخطاب بـ يا أيها الناس لجميع البشر ، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وتأكيد الخبر بـ ( إن ) باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم .

وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف ( جميعا ) الدال نصا على العموم ، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل ، فأن من اليهود فريقا كانوا يزعمون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبيء ، ويزعمون أنه نبيء العرب خاصة ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد - وهو يهودي - أتشهد أني رسول الله ، قال ابن صياد : أشهد أنك رسول الأميين . وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائل بأن محمدا رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل ، لأن اليهود فريقان : فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها . وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل ، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل .

وانتصب ( جميعا ) على الحال من الضمير المجرور ، بـ ( إلى ) وهو فعيل بمعنى مفعول أي مجموعين ، ولذلك لزم الإفراد لأنه لا يطابق موصوفه .

[ ص: 140 ] الذي له ملك السماوات والأرض نعت لاسم الجلالة ، دال على الثناء .

وتقديم المجرور للقصر ، أي : لا لغيره مما يعبده المشركون ، فهو قصر إضافي للرد على المشركين .

وجملة لا إله إلا هو حال من اسم الجلالة في قوة متفردا بالإلهية ، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية ، لا لقصد الرد على المشركين .

وجملة يحيي ويميت حال .

والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة : تذكير اليهود ، ووعظهم ، حيث جحدوا نبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وزعموا أنه لا رسول بعد موسى ، واستعظموا دعوة محمد ، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول ، فذكروا بأن الله مالك السماوات والأرض ، وهو واهب الفضائل ، فلا يستعظم أن يرسل رسولا ثم يرسل رسولا آخر ؛ لأن الملك بيده ، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في إلوهيته ، فلا يكون إلهان للخلق . وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد ، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى ، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن : لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود ، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر .

وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله فآمنوا بالله ورسوله النبيء الأمي ، والمقصود طلب الإيمان بالنبيء الأمي لأنه الذي سيق الكلام لأجله ، ولكن لما صدر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله ، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبيء الأمي ، جمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبيء الأمي في طلب واحد ، ليكون هذا الطلب متوجها للفرق كلهم ، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبيء الأمي ، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدما على طلب الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله ، على نحو ما أشار إليه قوله - تعالى - ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ، وهذا الأسلوب نظير قوله - تعالى - إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة [ ص: 141 ] فإنهم آمنوا بالله ورسله ، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث ، وهو المقصود من سياق الكلام .

والإيمان بالله الإيمان بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات ، والإيمان بالرسول الإيمان بأخص صفاته وهو الرسالة ، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم .

وفي قوله ورسوله النبيء الأمي التفات من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد - صلى الله عليه وسلم .

ووصف النبيء الأمي بــ الذي يؤمن بالله وكلماته ، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول ، وأنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب ؛ لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله ، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائر الأديان الإلهية الحق . وهذا نظير قوله - تعالى - ، في تفضيل المسلمين وتؤمنون بالكتاب كله وتقدم معنى الأمي قريبا .

وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله - تعالى - كلا إنها كلمة هو قائلها أي قوله رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت . فلكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل ، وأوثر هنا التعبير بكلماته ، دون كتبه ؛ لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن عيسى كلمة الله ، أي أثر كلمته ، وهي أمر التكوين ، إذ كان تكون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله كن كما قال - تعالى - إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ، فاقتضى أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يؤمن بعيسى ، أي بكونه رسولا من الله ، وذلك قطع لمعذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله ، وليس ابن الله ، وفي ذلك بيان للإيمان الحق ، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه ، ورد على النصارى فيما غلوا فيه .

والقول في معنى الاتباع تقدم ، وكذلك القول في نحو لعلكم تهتدون

التالي السابق


الخدمات العلمية