صفحة جزء
( والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) هذا إخبار بما يؤول إليه حال الكفار في الآخرة من حشرهم إلى جهنم إذ أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهم وكونهم مغلوبين ، ومعنى قوله : والذين كفروا ، من وافى على الكفر ، وأعاد الظاهر لأن من أنفق ماله من الكفار أسلم منهم جماعة ، ولام ليميز متعلقة بقوله يحشرون ، والخبيث والطيب وصفان يصلحان للآدميين وللمال ، وتقدم ذكرهما في قوله : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ، فمن المفسرين من تأول الخبيث والطيب على الآدميين ، فقال ابن عباس : ليميز أهل السعادة من أهل الشقاوة ، ونحوه قال السدي ومقاتل ، قالا : أراد المؤمن من الكفار وتحريره ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة والكافر من المؤمن ، وقدره الزمخشري : الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين ، ومعنى جعل الخبيث بعضه على بعض وركمه ضمه وجمعه حتى لا يفلت منهم أحد ، واحتمل الجعل أن يكون من باب التصيير ومن باب الإلقاء ، وقال ابن القشيري : ليميز الله الخبيث من الطيب بتأخير عذاب كفار هذه الأمة إلى يوم القيامة ليستخرج المؤمنين من أصلاب الكفار ، انتهى ، فعلى ما سبق يكون التمييز في الآخرة ، وعلى القول الأخير يكون في الدنيا ، ومن المفسرين من تأول الخبيث والطيب على الأموال ، فقال ابن سلام والزجاج : المعني بالخبيث المال الذي أنفقه المشركون كمال أبي سفيان وأبي جهل وغيرهما المنفق في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإعانة عليه في الصد عن سبيل الله ، والطيب هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله ، كمال أبي بكر وعمر وعثمان ، ولام ليميز على هذا متعلقة بقوله : يغلبون ، قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري بقوله : ثم تكون عليهم حسرة ، والمعنى : ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب ، فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب ، ويكون قوله : ( فيجعله في جهنم ) من جملة ما يعذبون به ، كقوله : ( فتكوى بها جباههم ) إلى قوله : ( فذوقوا ما كنتم تكنزون ) ، قاله الحسن ، وقيل : الخبيث ما أنفق في المعاصي ، والطيب ما أنفق في الطاعات ، وقيل : المال الحرام من المال الحلال ، وقيل : ما لم تؤد زكاته من الذي أديت زكاته ، وقيل : هو عام في الأعمال السيئة ، وركمها ختمها وجعلها قلائد في أعناق عمالها في النار ، ولكثرتها جعل بعضها فوق بعض ، وإن كان المعني بالخبيث الأموال التي أنفقوها في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل : [ ص: 494 ] الفائدة في إلقائها في النار أنها لما كانت عزيزة في أنفسها عظيمة بينهم ، ألقاها الله في النار ليريهم هوانها كما تلقى الشمس والقمر في النار ليرى من عبدهما ذلهما وصغارهما ، والذي يظهر من هذه الأقوال هو الأول ، وهو أن يكون المراد بالخبيث الكفار ، وبالطيب المؤمنون ، إذ الكفار أولاهم المحدث عنهم بقوله : ( ينفقون أموالهم ) ، وقوله : ( فسينفقونها ) ، وبقوله : ( إلى جهنم يحشرون ) ، وأخراهم المشار إليهم بقوله : ( أولئك هم الخاسرون ) ، ولما كان تغلب الإنسان في ماله وتصرفه فيه يرجو بذلك حصول الربح له ، أخبر تعالى أن هؤلاء هم الذين خسروا في إنفاقهم ، وأخفقت صفقتهم حيث بذل أعز ما عنده في مقابلة عذاب الله ، ولا خسران أعظم من هذا ، وتقدم ذكر الخلاف في قراءة : ليميز ، في قوله : حتى يميز الخبيث من الطيب ، ويقال : ميزته فتميز وميزته فانماز ، حكاه يعقوب ، وفي الشاذ ( وانمازوا اليوم ) وأنشد أبو زيد قول الشاعر :


لما ثنى الله عني شر عذرته وانمزت لا منسئا دعرا ولا رجلا

( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار ، وجعلهم فيها وخسرهم تلطف بهم ، وأنهم إذا انتهوا عن الكفر وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة ، وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر ، فلذلك كان المعنى : إن ينتهوا عن الكفر ، واللام في للذين الظاهر أنها للتبليغ ، وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول ، وسواء قاله بهذه العبارة أم غيرها ، وجعل الزمخشري اللام لام العلة ، فقال : أي قل لأجلهم هذا القول : إن ينتهوا ، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا نغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود ، ونحوه : ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) خاطبوا به غيرهم ليسمعوه ، انتهى ، وقرئ يغفر مبنيا للفاعل والضمير لله تعالى .

( وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ) . العود يقتضي الرجوع إلى شيء سابق ، ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه ، فالمعنى عودهم إلى ما أمكن انفصالهم منه ، وهو قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : وإن يعودوا إلى الارتداد بعد الإسلام ، وبه فسر أبو حنيفة وإن يعودوا ، واحتج بالآية على أن المرتد إذا أسلم فلا يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها ، وأجمعوا على أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة ، وأما إذا أسلم الذمي فيلزمه قضاء حقوق الآدميين لا حقوق الله تعالى ، والظاهر دخول الزنديق في عموم قوله : ( قل للذين كفروا ) ، فتقبل توبته ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك : لا تقبل ، وقال يحيى بن معاذ الرازي : التوحيد لا يعجز عن هدم ما قبله من كفر ، فلا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب ، وجواب الشرط قالوا : ( فقد مضت سنة الأولين ) ، ولا يصح ذلك على ظاهره ، بل ذلك دليل على الجواب ، والتقدير : وإن يعودوا انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنة الأولين في أنا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم ، ويحتمل ( سنة الأولين ) أن يراد بها سنة الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر ، وسنة الذين تحزبوا على أنبيائهم فدمروا فليتوقعوا مثل ذلك ، وتخويفهم بقصة بدر أشد إذ هي قريبة معاينة لهم ، وعليها نص السدي وابن إسحاق ، ويحتمل أن يراد بقوله سنة الأولين من تقدم من أهل بدر [ ص: 495 ] والأمم السالفة ، والمعنى : فقد عاينتم قصة بدر وسمعتم ما حل بهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية