صفحة جزء
( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ) قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل : ( وإذن ) بكسر الهمزة وسكون الذال . وقرأ الحسن والأعرج : ( إن الله ) بكسر الهمزة ، فالفتح على تقدير بأن ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو لأن الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن علي : ( ورسوله ) بالنصب ، عطفا على لفظ اسم أن . وأجاز الزمخشري أن ينتصب على أنه مفعول معه . وقرئ بالجر شاذا ، ورويت عن الحسن ، وخرجت على العطف على الجوار ، كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار ، وقيل : هي واو القسم . وروي أن أعرابيا سمع من يقرأ بالجر فقال : إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه القارئ إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته ، فعندها أمر عمر بتعليم العربية . وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء ، والخبر محذوف أي : ورسوله بريء منهم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، وجوزوا فيه أن يكون معطوفا على الضمير المستكن في " بريء " ، وحسنه كونه فصل بقوله : ( من المشركين ) ، بين متحمله والمعطوف . ومن أجاز العطف على موضع اسم إن المكسورة أجاز ذلك مع أن المفتوحة . ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة ومنع مع المفتوحة . قال ابن عطية : ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه : أن لا موضع لما دخلت عليه أن إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل ، وأنه لا فرق بين أن وبين ليت ، والإجماع أن لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى . وهذا كلام فيه تعقب ; لأن علة كون أن لا موضع لما دخلت عليه ، ليس ظهور عمل العامل ، بدليل ليس زيد بقائم ، وما في الدار من رجل ، فإنه ظهر عمل العامل ولهما موضع . وقوله : والإجماع إلى آخره ، يريد : أن ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع ، وليس كذلك ؛ لأن الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكأن ولكن وأن حكم إن في كون اسمهن له موضع .

وإعراب ( وأذان ) كإعراب ( براءة ) على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على ( براءة ) ، كما لا يقال : عمرو معطوف على زيد في : زيد قام وعمرو قاعد .

والأذان بمعنى الإيذان ؛ وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء ، ويضعف جعله خيرا عن ( وأذان ) إذا أعربناه مبتدأ ، بل الخبر قوله : ( إلى الناس ) . وجاز الابتداء بالنكرة ; لأنها وصفت بقوله : ( من الله ورسوله ) .

و ( يوم ) منصوب بما يتعلق به ( إلى الناس ) ، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله : ( وأذان ) ، وهو بعيد من جهة أن المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة ، ومن جهة أنه لا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله ، وقد أخبر عنه بقوله : ( إلى الناس ) .

لما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج ، فكره أن يرى المشركين يطوفون عراة ، فبعث أبا بكر أميرا على الموسم ، ثم أتبعه عليا ليقرأ هذه [ ص: 7 ] الآيات على أهل الموسم راكبا ناقته العضباء ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : " لا يؤدي عني إلا رجل مني " ، فلما اجتمعا قال أبو بكر : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور . فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام علي يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال : " يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم " ، فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين ، وعن مجاهد : ثلاث عشرة ، ثم قال : " أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده " ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف . وقيل : عادة العرب في نقض عهودها أن يتولى رجل من القبيلة ، فلو تولاه أبو بكر لقالوا : هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود ، فلذلك جعل عليا يتولاه ، وكان أبو هريرة مع علي ، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة .

والظاهر أن ( يوم الحج الأكبر ) هو يوم أحد ، وقال عمر ، وابن الزبير ، وأبو جحيفة ، وطاوس ، وعطاء ، وابن المسيب : هو يوم عرفة ، وروي مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو موسى ، وابن أبي أوفى ، والمغيرة بن شعبة ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، والسدي : هو يوم النحر ، وقيل : ( يوم الحج الأكبر ) أيام الحج كلها ، قاله سفيان بن عيينة . قال ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث أن عليا أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره ، ويتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، وبهذا يترجح قول سفيان . ويقول : كان هذا يوم صفين ، ويوم الجمل ، يريد جميع أيامه . وقال مجاهد : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم : أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا .

ووصفه بالأكبر ; قال الحسن ، وعبد الله بن الحرث بن نوفل : لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون ، وصادف عيد اليهود والنصارى ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر . وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا . وقال الحسن أيضا : لأنه حج فيه أبو بكر ، ونبذت فيه العهود . قال ابن عطية : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونبذت فيه العهود ، وعز فيه الدين ، وذل فيه الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه ، فحقه لهذا أن يسمى أكبر انتهى . ومن قال : إنه يوم عرفة ، فسمي الأكبر ; لأنه معظم واجباته ، فإذا فات فات الحج . ومن قال : إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج ، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي . وقيل : وصف بالأكبر ; لأن العمرة تسمى بالحج الأصغر . وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة ، وكان الجمع يوم النحر بمنى ، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر ؛ أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون . وقد ذكر المهدوي : أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه . وحكى القرطبي عن ابن سيرين : أن يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وحج معه الأمم ، وهذا يحتاج إلى إضمار ، كأنه قال : هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر ؛ وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى . وسمي أكبر ؛ لأنه فيه ثبتت مناسك الحج ، وقال فيه : " خذوا عني مناسككم " .

وجملة ( براءة من الله ورسوله ) إخبار [ ص: 8 ] بثبوت البراءة ، وجملة ( وأذان من الله ورسوله ) إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، فافترقتا . وعلقت البراءة بالمعاهدين ; لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم ، وعلق الأذان بالناس لشموله : معاهدا وغيره ، ناكثا وغيره ، مسلما وكافرا ، هذا هو قول الجمهور . قيل : ويجوز أن يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية ، وبدليل مناداة علي بالجمل الأربع ، فظاهره أن المخاطب بتلك الجمل الكفار . ولما كان المجرور خبرا عن قوله : ( وأذان ) ، كان بإلى ؛ أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم . ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام .

ومن في ( من المشركين ) متعلقة بقوله : ( بريء ) تعلق المفعول . تقول : برئت منك ، وبرئت من الدين بخلاف من في قوله : ( براءة من الله ) ، فإنها في موضع الصفة .

( فإن تبتم ) أي : من الشرك الموجب لتبرؤ الله ورسوله منكم . ( فهو ) أي : التوب ( خير لكم ) في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم ، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار . ( وإن توليتم ) أي : عن الإسلام ( فاعلموا أنكم غير معجزي الله ) أي : لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته ، ( وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ) جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم ، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم ، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية