صفحة جزء
( اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون ) [ ص: 14 ] الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم ، ويكون المعنى : اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمنا قليلا ، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر ، كان ذلك كالشراء والبيع . وقال مجاهد : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه . وقال أبو صالح : هم قوم من اليهود ، وآيات الله التوراة . وقال ابن عباس : هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام ، فصدوا عن سبيله ; أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه . والظاهر أن ( ساء ) هنا محولة إلى فعل . ومذهب بابها مذهب بئس ، ويجوز إقرارها على وصفها الأول ، فتكون متعدية ; أي : أنهم ساءهم ما كانوا يعملون ، فحذف المفهوم لفهم المعنى .

( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ) هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان ، ولما كان قوله : ( لا يرقبوا فيكم ) يتوهم أن ذلك مخصوص بالمخاطبين ، نبه على علة ذلك ، وأن سبب المنافاة هو الإيمان ، ( وأولئك ) ; أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة ( هم المعتدون ) ; المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد .

( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) أي فإن تابوا عن الكفر ونقض العهد ، والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم ، أي : فهم إخوانكم ، والإخوان ، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين . ومن زعم أن الإخوة تكون في النسب ، والإخوان في الصداقة ، فقد غلط . قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) وقال : ( أو بيوت إخوانكم ) ، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة ، ويظهر أن مفهوم الشرط غير مراد .

( ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) أي نبينها ونوضحها . وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين ، بين قوله : ( فإن تابوا ) ، وقوله : ( وإن نكثوا ) ، بعثا وتحريضا على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام ، وقال : ( لقوم يعلمون ) ; لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم .

( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) أي : وإن نقضوا أقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أن لا ينكثوا . ( وطعنوا ) : أي عابوه وثلبوه واستنقصوه ، والطعن هنا مجاز ، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه ، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة : " إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل " ; أي عبتموها واستنقصتموها . والظاهر أن هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلا ; لأن من أسلم ثم ارتد فيكون قوله : فقاتلوا أئمة الكفر ; أي رؤساء الكفر وزعماءه . والمعنى : فقاتلوا الكفار ، وخص الأئمة بالذكر ; لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر . وقال الكرماني : كل كافر إمام نفسه ، فالمعنى : فقاتلوا كل كافر . وقيل : من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأسا في الكفر ، فهو من أئمة الكفر . وقال ابن عباس : أئمة الكفر زعماء قريش . وقال القرطبي : هو بعيد ; لأن الآية في سورة ( براءة ) ، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم . وقال قتادة : المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ; لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير . وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجئ هؤلاء بعد ، يريد لم ينقرضوا ، فهم يجيئون أبدا ويقاتلون . وقال ابن عطية : أصوب ما في هذا أن يقال : إنه لا يعنى بها معين ، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الإشارة إليهم أولا بقوله : ( أئمة الكفر ) ، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة ; إذ الذي يتولى قتال النبي صلى [ ص: 15 ] الله عليه وسلم والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى . وقيل : المراد بالعهد الإسلام ، فمعناه كفروا بعد إسلامهم . ولذلك قرأ بعضهم : وإن نكثوا إيمانهم بالكسر ، وهو قول الزمخشري ، قال : ( فقاتلوا أئمة الكفر ) : فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد ، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ، ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . والمشهور من مذهب مالك أن الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئا مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل . وقيل : إن أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك ، وإن كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل . وقال أبو حنيفة : يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل : فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك ; لأن الإسلام يجب ما قبله ، وفي العتبية أنه يقتل ، ولا يكون أحسن حالا من المسلم .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بإبدال الهمزة الثانية ياء ، وروي عن نافع مد الهمزة ، وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع : بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفا ، وأصله أأممة على وزن " أفعلة " ، جمع إمام ، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لفظ أئمة ؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ; أي بين مخرج الهمزة والياء . وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون . ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى . وذلك دأبه في تلحين المقرئين . وكيف يكون ذلك لحنا وقد قرأ به رأس البصريين النحاة : أبو عمرو بن العلاء ، وقارئ مكة ابن كثير ، وقارئ مدينة الرسول نافع ، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم ، أو يكون على حذف الوصف أي : لا أيمان لهم يوفون بها . وقرأ الجمهور : بفتح الهمزة ، وقرأ الحسن ، وعطاء ، وزيد بن علي ، وابن عامر : لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق . قال أبو علي : وهذا غير قوي ; لأنه تكرار ، وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيمانا ، ومنه قوله تعالى : ( وآمنهم من خوف ) فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف . قال أبو حاتم : فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى . وكذا تبعه الزمخشري ، فقال : وقرئ لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم ، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث ، ولا سبيل إليه . وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يمينا ، وعند الشافعي يمينهم يمين ، وقال : معناه أنهم لا يوفون بها بدليل أنه تعالى وصفها بالنكث .

( لعلهم ينتهون ) متعلق بقوله : ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ; أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه ، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة .

( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) [ ص: 16 ] ( ألا ) حرف عرض ، ومعناه هنا الحض على قتالهم . وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية ، فصار فيها معنى التخصيص . وقال الزمخشري : دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة ، ومعناها : الحض عليها على سبيل المبالغة . ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها ، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم . ومعنى نكثوا أيمانهم : نقض العهد . قال السدي ، وابن إسحاق ، والكلبي : نزلت في كفار مكة ، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى . وهمهم هو هم قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة ، فأذن الله في الهجرة ، فخرج بنفسه ، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع ، أو اليهود هموا بغدر الرسول صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهده ، وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة ، ثلاثة أقوال أولها للسدي . وقال الحسن : من المدينة . قال ابن عطية : وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المبين وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال ، فهم البادئون ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ; تصدمونهم بالشر كما صدموكم ؟ وبخهم بترك مقاتلتهم ، وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها . وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها ، قاله الزمخشري ، وهو تكثير . وقال ابن عطية : ( أول مرة ) ، قيل : يريد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين . وقال مجاهد : ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي ، فكان هذا بدء النقض . وقال الطبري : يعني فعلهم يوم بدر انتهى .

وقرأ زيد بن علي : بدوكم بغير همز ، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت ، بإبدالها ياء ، كما قالوا في قرأت : قريت ، فصار كرميت . فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت ، فصار بدوكم ، كما تقول : رموكم . ( أتخشونهم ) تقرير للخشية منهم ، وتوبيخ عليها . ( فالله أحق أن تخشوه ) فتقتلوا أعداءه . ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره ( أحق ) ، و ( أن تخشوه ) بدل من الله ; أي : وخشية الله أحق من خشيتهم ، ( وأن تخشوه ) في موضع رفع ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن تخشوه ; أي أحق من غيره بأن تخشوه . وجوز أبو البقاء أن يكون ( أن تخشوه ) مبتدأ ، وأحق خبره قدم عليه . وأجاز ابن عطية أن يكون ( أحق ) مبتدأ وخبره ( أن تخشوه ) ، والجملة خبر عن الأول . وحسن الابتداء بالنكرة ; لأنها أفعل التفضيل ، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفة خبرا للنكرة في نحو : اقصد رجلا خير منه أبوه . ( إن كنتم مؤمنين ) ; أي كاملي الإيمان ; لأنهم كانوا مؤمنين . وقال الزمخشري : يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى : ( ولا يخشون أحدا إلا الله ) .

( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ) قررت الآيات قبل هذا أفعال [ ص: 17 ] الكفرة المقتضية لقتالهم ، والحض على القتال ، وحرم الأمر بالقتال في هذه ، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم ، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم ، ( وينصركم ) يظفركم بهم ، وشفاء الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم .

وقرأ زيد بن علي : ونشف بالنون على الالتفات ، وجاء التركيب ( صدور قوم مؤمنين ) ليشمل المخاطبين وكل مؤمن ; لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن . وقيل : المراد قوم معينون ، قال ابن عباس : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديدا ، فبعثوا إلى رسول الله يشكون إليه فقال : " أبشروا فإن الفرج قريب " وقال مجاهد والسدي : هم خزاعة . ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير . ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم :


ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا



وفي آخر الرجز :


وقتلونا ركعا وسجدا



وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه ، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها ; لأن شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ . وقرأت فرقة : ( ويذهب ) فعلا لازما ( غيظ ) فاعل به . وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه رفع الباء . وهذه المواعيد كلها وجدت ، فكان ذلك دليلا على صدق الرسول وصحة نبوته ، وبدئ أولا فيها بما تسبب عن النصر ، وهو تعذيب الله الكفار ، وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم ، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون ، ثم ذكر ما السبب ؛ وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين ، ثم ذكر ما تسبب أيضا عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميما للنعم ، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار ، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر ، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم ، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم .


إن الأسود أسود الغاب همتها     يوم الكريهة في المسلوب لا السلب



وقرأ الجمهور : ويتوب الله رفعا ، وهو استئناف إخبار بأن بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره ، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم . قال الفراء والزجاج وأبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في ( قاتلوهم ) انتهى . وقرأ زيد بن علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن عبيد ، وعمر بن قائد ، وأبو عمرو ، ويعقوب فيما روي عنهما : ويتوب الله بنصب الباء ، جعله داخلا في جواب الأمر من طريق المعنى . قيل : ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء . قال ابن عطية : ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أن التوبة يراد بها أن قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال . وقال غيره : لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة من تلك الكراهة . وقيل : حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام ، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعيا لهم إلى التوبة مما تقدم ، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى . وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار ، والذي يظهر أن ذلك بالنسبة إلى الكفار ، فالمعنى على من يشاء من الكفار ، وذلك أن قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس ، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ، ولا داعية قبل القتال . ألا ترى إلى قتال [ ص: 18 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة كيف كان سببا لإسلامهم ; لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة ، وقد يدخل على كره واضطرار ، ثم قد تحسن حاله في الإسلام . ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولا في الإسلام ، ثم صار أمره إلى أحسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته ، وكان من خيار الصحابة ؟ ( والله عليم ) يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان ، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك المواعيد ، وأنها كائنة لا محالة . ( حكيم ) في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى .

( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) تقدم تفسير نظير هذه الجملة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم .

( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) ( ولم يتخذوا ) معطوف على ( جاهدوا ) . غير متخذين وليجة ، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل ، وهي البطانة والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار ، شبه النفاق به . وقال قتادة : الوليجة الخيانة ، وقال الضحاك : الخديعة ، وقال عطاء : الأوداء ، وقال الحسن : الكفر والنفاق ، وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة ، يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد . وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس ، وجمعها ولائج وولج ، كصحيفة وصحائف وصحف . وقال عبادة بن صفوان الغنوي :


ولائجهم في كل مبدى ومحضر     إلى كل من يرجى ومن يتخوف



وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال ، والمعنى : لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ، ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه ، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار .

( والله خبير بما تعملون ) قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله : أم حسبتم ، وقرأ الحسن ، ويعقوب في رواية رويس ، وسلام بالياء على الغيبة التفاتا .

التالي السابق


الخدمات العلمية