صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ) ; لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يقرأ على مشركي مكة أول ( براءة ) ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأن الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة وانقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت . وقيل : لما نزل ( إنما المشركون نجس ) ، شق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت ( وإن خفتم عيلة ) الآية . والجمهور على أن المشرك من اتخذ مع الله إلها آخر ، وعلى أن أهل الكتاب ليسوا بمشركين ، ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الإشراك لقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ; أي يكفر به . وقرأ الجمهور : ( نجس ) بفتح النون والجيم ، وهو مصدر نجس نجسا ; أي قذر قذرا ، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس . قال ابن عباس ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيره : الشرك هو الذي نجسهم ، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير . وقال الحسن : من صافح مشركا فليتوضأ . وفي التحرير : وبالغ الحسن حتى قال : إن الوضوء يجب من مس المشرك ، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية . وقال قتادة ، ومعمر بن راشد وغيرهما : وصف المشرك بالنجاسة ; لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة [ ص: 28 ] ليس بغسل ، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين ، وهو مذهب مالك . وقال ابن عبد الحكم : لا يجب ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجسا مبالغة في وصفهم بالنجاسة .

وقرأ أبو حيوة : ( نجس ) بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الإتباع كما قالوا في كبد : كبد ، وكرش : كرش . وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل .

وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ; أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام . والظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد . وقال الزمخشري : إن معنى قوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام " : فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل عليه قول علي حين نادى بـ ( براءة ) : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى . وقال الشافعي : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد . وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد . وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله . وقيل : المراد من القربان أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك . وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبدا لمسلم . والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميرا على الموسم ، وأتبع بعلي ونودي فيها بـ ( براءة ) . وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ( العيلة ) : الفقر . وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف ؛ أي : حالا عائلة . و ( إن ) هنا على بابها من الشرط ، وقال عمرو بن قائد : المعنى : وإذ خفتم كقولهم : إن كنت ابني فأطعني ; أي : إذ كنت . وكون ( إن ) بمعنى ( إذ ) قول مرغوب عنه . وتقدم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى . قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة . وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الإغناء بالمشيئة ; لأنه يقع في حق بعض دون بعض ، وفي وقت دون وقت . وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم . وقال القرطبي : إعلاما بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل الله . ويروى للشافعي :


لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي     لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق     ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق



( إن الله عليم ) بأحوالكم ( حكيم ) لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة . وقال ابن عباس : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين .

[ ص: 29 ] ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك ، وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ; لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به ، قاله الكرماني . وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولدا وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل . وقال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ; إذ يلقونها من غير طريقها . وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ; لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وغير ذلك . ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان . وقول اليهود في النار يكون فيها أياما انتهى . وفي الغنيان : نفى عنهم الإيمان ; لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى . والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني .

( ما حرم الله ) في كتابه ( ورسوله ) في السنة . وقيل : في التوراة والإنجيل ; لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير . وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين . والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن . ( ولا يدينون دين الحق ) ; أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل . وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله ، قاله قتادة . يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه دينا ويعتقده . وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه ، وقد دان له وخضع . قال زهير :


لئن حللت بجو في بني أسد     في دين عمرو وحالت بيننا فدك



( من الذين أوتوا الكتاب ) بيان لقوله : ( الذين ) . والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا . وأجمع الناس على ذلك . وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم انتهى . وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب . وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم . وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نار أو جامد مكذب . وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية . وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائنا من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد . وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط . والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين . وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس ، واختلف في الشيخ الفاني .

ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس [ ص: 30 ] ولا لوقت إعطائها . فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقا وكسوة . وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم . وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار . وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهما ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهما ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له . قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة . وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير . وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة . وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


نجزيك أو نثني عليك وإن من     أثنى عليك بما فعلت فقد جزى



وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه ; أي يقضوه .

( عن يد ) ; قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها . وقال عثمان : يعطونها نقدا لا نسيئة . وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم . وقيل : عن اعتراف . وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان ; أي الأمر له . وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ; لأن قبولها منهم عوضا عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم : له علي يد أي : نعمة . وقال القتبي : يقال أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكافئ . وقيل : عن يد : عن جماعة ; أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله . واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة ; أي : هم مجتمعون . وقيل : عن يد ; أي عن غنى وقدرة ، فلا تؤخذ من الفقير . ولخص الزمخشري في ذلك فقال : إما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ; لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم . وإما أن يريد يد المعطي فالمعنى عن يد مواتية غير ممتنعة ; لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد ; أي نقدا غير نسيئة أو لا مبعوثا على يد آخر ولكن عن يد المعطي البريد الآخذ .

( وهم صاغرون ) جملة حالية ; أي : ذليلون حقيرون . وذكروا كيفيات في أخذها منهم ، وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية . قال ابن عباس : يمشون بها ملببين . وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم . وقال عكرمة : يكون قائما والآخذ جالسا . وقال الكلبي : يقال له عند دفعها : أد الجزية ويصك في قفاه . وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية