صفحة جزء
( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ) ; أي لمن جملة المسلمين . وأكذبهم الله بقوله : وما هم منكم . ومعنى يفرقون : يخافون القتل وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، وهم يبطنون النفاق ، أو يخافون إطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار . ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال : ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين ، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة .

( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ) : لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق ؛ وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا ، ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار . قال ابن عباس : [ ص: 55 ] الملجأ الحرز . وقال قتادة : الحصن . وقال السدي : المهرب . وقال الأصمعي : المكان الذي يتحصن فيه . وقال ابن كيسان : القوم يأمنون منهم . والمغارات جمع مغارة وهي الغار ، ويجمع على غيران ، بني من غار يغور إذا دخل ، مفعلة للمكان كقولهم : مزرعة . وقيل : المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع .

وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف : مغارات بضم الميم ، فيكون من أغار . قيل : وتقول العرب : غار الرجل وأغار بمعنى دخل ، فعلى هذا يكون ( مغارات ) من أغار اللازم . ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار ; أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم . وقال الزجاج : ويصح أن يكون من قولهم : جبل مغار ; أي مفتول . ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم ، فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة أو أمورا مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلا لولوا إليه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومغار . انتهى . والمدخل قال مجاهد : المعقل يمنعهم من المؤمنين . وقال قتادة : السرب يسيرون فيه على خفاء . وقال الكلبي : نفقا كنفق اليربوع . وقال الحسن : وجها يدخلون فيه على خلاف الرسول . وقيل : قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين . وقال الجمهور : مدخلا ، وأصله مدتخل ، مفتعل من ادخل ، وهو بناء تأكيد ومبالغة ، ومعناه السرب والنفق في الأرض ، قاله ابن عباس . بدئ أولا بالأعم وهو الملجأ ; إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان ، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال ، ثم أتى ثالثا بالمدخل وهو النفق باطن الأرض . وقال الزجاج : المدخل قوم يدخلونهم في جملتهم . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ومسلمة بن محارب ، وابن محيصن ، ويعقوب ، وابن كثير بخلاف عنه : مدخلا بفتح الميم من دخل . وقرأ محبوب عن الحسن : مدخلا بضم الميم من أدخل . وروي ذلك عن الأعمش وعيسى بن عمر . وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : مدخلا بتشديد الدال والخاء معا ، أصله متدخل ، فأدغمت التاء في الدال . وقرأ أبي مندخلا بالنون من اندخل . قال :


ولا يدي في حميت السكن تندخل



وقال أبو حاتم : قراءة أبي متدخلا بالتاء . وقرأ الأشهب العقيلي : لوالوا إليه أي لتابعوا إليه وسارعوا . وروى ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ : لوالوا إليه من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم ، وقال : أظنها لوألوا بمعنى للجئوا . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي : وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد ، ومثله ضاعف وضعف . انتهى . وقال الزمخشري : وقرأ أبي بن كعب متدخلا لوالوا إليه لالتجئوا إليه . انتهى . وعن أبي لولوا وجوههم إليه . ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفردا على قاعدة النحو في أو ، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ ، أو على المدخل ، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره ، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها . وهم يجمحون : يسرعون إسراعا لا يردهم شيء . وقرأ أنس بن مالك والأعمش : وهم يجمزون . قيل : يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد . وقال ابن عطية : يجمزون : يهرولون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما أذلقته الحجارة جمز .

التالي السابق


الخدمات العلمية