صفحة جزء
( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ) : كان المنافقون يعيبون الرسول [ ص: 66 ] ويقولون : عسى الله ألا يفشي سرنا ، فنزلت ، قاله مجاهد . وقال السدي : قال بعضهم : وددت أني جلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزلت . وقال ابن كيسان : وقف جماعة منهم للرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام فنزلت . وقيل قالوا في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها ، هيهات هيهات ، فأنزل الله : ( قل استهزئوا ) . والظاهر أن ( يحذر ) خبر ، ويدل عليه ( إن الله مخرج ما تحذرون ) . فقيل : هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسول يخبرهم بما يكتمونه ، وقع الحذر والخوف في قلوبهم . وقال الأصم : كانوا يعرفونه رسولا من عند الله فكفروا حسدا ، واستبعد القاضي في العالم بالله ورسوله وصحة دينه أن يكون محادا لهما ، وليس ببعيد ، فإنه إذا استحكم الحسد نازع الحاسد في المحسوسات . وقيل : هو حذر أظهروه على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول يذكر أشياء وأنها عن الوحي وكانوا يكذبون بذلك ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأعلم أنه مظهر سرهم ، ويدل عليه قوله : ( قل استهزئوا ) . وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عنادا : هو مضارع في معنى الأمر ، أي : ليحذر المنافقون ، ويبعده ( مخرج ما تحذرون ) ، و ( أن تنزل ) مفعول ( يحذر ) ، وهو متعد . قال الشاعر :


حذر أمورا لا تضر وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار



وقال تعالى : ( ويحذركم الله نفسه ) لما كان قبل التضعيف متعديا إلى واحد ، عداه بالتضعيف إلى اثنين . وقال المبرد : حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع ، والتقدير : يحذر المنافقون من أن تنزل ، ولا يلزم ذلك ، ألا ترى أن ( خاف ) من هيئات النفس وتتعدى ؟ والظاهر أن قوله ( عليهم ) و ( تنبئهم الضميران فيهما عائدان على المنافقين ، وجاء عليهم لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، قاله الكرماني ، والزمخشري . قال الكرماني : ويحتمل أنه من قولك : هذا عليك لا لك .

ومعنى ( تنبئهم بما في قلوبهم ) : تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة ، فكأنها تخبرهم بها . وقال الزمخشري : والضمير في ( عليهم ) و ( تنبئهم ) للمؤمنين ، و ( في قلوبهم ) للمنافقين ، وصح ذلك لأن المعنى يعود إليه . انتهى . والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله : ( اعملوا ما شئتم ) ومعنى ( مخرج ما تحذرون ) مبرز إلى حيز الوجود ما تحذرونه من إنزال السورة ، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم . وفعل ذلك تعالى في هذه السورة ، فهي تسمى الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين . قيل : كانوا سبعين رجلا أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن ، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه ، لأن أبناءهم كانوا مسلمين .

( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ؛ أي : ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام ، وقول بعضهم : كأنكم غدا في الجبال أسرى لبني الأصفر ، وقول بعضهم : ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكثر كذبا ولا أجبن عند اللقاء ، فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم ، فقالوا : يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ، إنما كنا في شيء مما [ ص: 67 ] يخوض فيه الركب ، كنا في غير جد . قل : ( أبالله ) تقرير على استهزائهم ، وضمنه الوعيد ، ولم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير . وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته ، قاله الزمخشري ، وهو حسن . وتقديم ( بالله ) وهو معمول خبر كان عليها ، يدل على جواز تقديمه عليها . وعن ابن عمر : رأيت قائل هذه المقالة - يعني : إنما كنا نخوض ونلعب - وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) ، والنبي يقول : ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) وذكر أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك .

( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) : نهوا عن الاعتذار ؛ لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع . ( قد كفرتم ) أظهرتم الكفر بعد إيمانكم ، أي : بعد إظهار إيمانكم ، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم ، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة ، والتعذيب لطائفة . وكان المنافقون صنفين : صنف أمر بجهادهم : ( جاهد الكفار والمنافقين ) وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف ، فعذبوا بإخراجهم من المسجد ، وانكشاف معظم أحوالهم ، وصنف ضعفة مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر ، لم يؤذوا الرسول فعفا عنهم ، وهذا العذاب والعفو في الدنيا . وقيل : المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان ، والمعذبون من مات منهم على نفاقه . وقيل : المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشي بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ، كان مع الذين قالوا : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) وقيل : كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة . وقيل : إنه كان مسلما مخلصا ، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ، فعفا الله عنه ، واستشهد باليمامة وقد كان تاب ، ويسمى عبد الرحمن ، فدعا الله أن يستشهد ويجهل أمره ، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده .

وقرأ زيد بن ثابت ، وأبو عبد الرحمن ، وزيد بن علي ، وعاصم من السبعة : ( إن نعف ) بالنون ، ( نعذب ) بالنون ( طائفة ) . ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني : قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباع ؟ فقلت : قراءة عاصم ، فأنشدني :


لعاصم قراءة     لغيرها مخالفة




إن نعف عن طائفة     منكم نعذب طائفة



وقرأ باقي السبعة : ( إن تعف تعذب طائفة ) ، مبنيا للمفعول . وقرأ الجحدري : ( إن يعف يعذب ) مبنيا للفاعل فيهما ، أي : إن يعف الله . وقرأ مجاهد : ( إن تعف ) بالتاء مبنيا للمفعول ، ( تعذب ) مبنيا للمفعول بالتاء أيضا . قال ابن عطية : على تقدير : إن تعف هذه الذنوب . وقال الزمخشري : الوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول : سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن ترحم طائفة ، فأنث لذلك ، وهو غريب . والجيد قراءة العامة ( إن يعف عن طائفة ) بالتذكير ، و " تعذب طائفة " بالتأنيث . انتهى . ( مجرمين ) : مصرين على النفاق غير تائبين .

التالي السابق


الخدمات العلمية