صفحة جزء
( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ) : الخطاب للرسول ، والمعنى : فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك . قيل : ودخول " إن " هنا ، وهي للممكن وقوعه غالبا - إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره ، إلا أن يعلمه الله ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى : ( قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ، ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) قال نحوه ابن عطية وغيره . ( إلى طائفة منهم ) لأن منهم من مات ، ومنهم من تاب وندم ، ومنهم من تخلف لعذر صحيح . فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه ، هكذا قيل . وإذا كان الضمير في ( منهم ) عائدا على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا ، فالذي يظهر أن ذكر الطائفة هو لأجل أن منهم من مات . قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب على أن لا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم . وقوله : ( وماتوا وهم فاسقون ) نص في موافاتهم . ومما يؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان ، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها . وروي عن حذيفة أنه قال يوما : بقي من المنافقين كذا وكذا . وقال له عمر بن الخطاب : أنشدك الله أنا منهم ؟ فقال : لا والله ، لا أمنت منها أحدا بعدك . وأمر الله نبيه أن يقول لهم : ( لن تخرجوا معي ) هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب .

قال الزمخشري : ( فاستأذنوك للخروج ) يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق ، بخلاف غيرهم من المخلفين . انتهى . وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة ، إلى الأشق وهو قتال العدو ؛ لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ثم [ ص: 81 ] علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة ، ورضاهم ناشئ عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر الله في قوله : ( انفروا خفافا وثقالا ) وقالوا هم : ( لا تنفروا في الحر ) ، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشئ عن السبب وهو النفاق . و ( أول مرة ) هي الخرجة إلى غزوة تبوك . و ( مرة ) مصدر ; كأنه قيل : أول خرجة دعيتم إليها ؛ لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة ، فلا بد من تقييدها ؛ إذ الأولية تقتضي السبق . وقيل : التقدير : أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه . وقيل : ( أول مرة ) قبل الاستئذان . وقال أبو البقاء : ( أول مرة ) ظرف ، ونعني ظرف زمان ، وهو بعيد .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ( مرة ) نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات ؟ قلت : أكثر اللغتين هند أكبر النساء ، وهي أكبرهن . ثم إن قولك : هي كبرى امرأة - لا تكاد تعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة . انتهى . ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، أي : أقيموا ، وليس أمرا بالقعود الذي هو نظير الجلوس ، وإنما المراد منعهم من الخروج معه . قال أبو عبيدة : الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم . وقيل : الخالفين المخالفين ، من قولهم : عبد خالف ، أي : مخالف لمولاه . وقيل : الأخساء الأدنياء من قولهم : فلان خالفة قومه ; لأخسهم وأرذلهم . ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد ، وقطع العلقة بينهما ، والاحتراز منه . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا . قال ابن عطية : والخالفون جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر . غلب المذكر ، فجمع بالواو والنون ، وإن كان ثم نساء ، وهو جمع خالف . وقال قتادة : الخالفون النساء ، وهذا مردود . وقال ابن عباس : هم الرجال . وقال الطبري : يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذا من خلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم . وقرأ مالك بن دينار وعكرمة : ( مع الخالفين ) ، وهو مقصور من ( الخالفين ) كما قال : عددا وبددا يريد عاددا وباددا ، وكما قال الآخر :


مثل النقى لبده ضرب الظلل



يريد الظلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية