صفحة جزء
( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ) الجمهور على أن السورة هنا كل سورة كان فيها الأمر بالإيمان والجهاد . وقيل : براءة لأن فيها الأمر بهما . وقيل : بعض سورة ، فأطلق عليه سورة ، كما يطلق على بعض القرآن قرآن وكتاب . وهذه الآية وإن تقدم أنهم كانوا استأذنوا الرسول في القعود - فيها تنبيه على أنهم كانوا متى تنزل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد استأذنوا ، وليست هنا " إذا " تفيد التعليق فقط ، بل انجر معها معنى التكرار ، سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال ، لا الوضع . وهي مسألة خلاف في النحو ، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر :


إذا وجدت أوار النار في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد



ألا ترى أن المعنى متى وجدت . ( أن آمنوا ) يحتمل أن " أن " تكون تفسيرية ؛ لأن قبلها شرط ذلك ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي : بأن آمنوا ، أي : بالإيمان . والظاهر أن الخطاب للمنافقين ، أي : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم . قيل : ويحتمل أن يكون خطابا للمؤمنين ، ومعناه : الاستدامة ، والطول : قال ابن عباس والحسن : الغنى . وقيل : القوة والقدرة . وقال الأصم : أولو الطول الكبراء والرؤساء . وأولو الأمر منهم ، أي : من المنافقين كعبد الله بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وأضرابهم . وأخص أولو الطول لأنهم القادرون على التنفير والجهاد ، ومن لا مال له ولا قدرة لا يحتاج إلى الاستئذان ، والاستئذان مع القدرة على الحركة أقبح وأفحش . والمعنى : استأذنك أولو الطول منهم في القعود ، وفي [ ص: 83 ] ( استأذنك ) التفات ، إذ هو خروج من لفظ الغيبة وهو قوله : ( رسوله ) ، إلى ضمير الخطاب . ( وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) الزمنى ، وأهل العذر ، ومن ترك لحراسة المدينة ؛ لأن ذلك عذر . وفي قوله : ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) تهجين لهم ، ومبالغة في الذم . والخوالف النساء ، قاله الجمهور ; كابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وشمر بن عطية ، وابن زيد ، والفراء ، وذلك أبلغ في الذم كما قال :


وما أدري وسوف إخال أدري     أقوم آل حصن أم نساء
فإن تكن النساء مخبآت     فحق لكل محصنة هداء



وقال آخر :


كتب القتل والقتال علينا     وعلى الغانيات جر الذيول



فكونهم رضوا بأن يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجين ، لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة اللواتي لا مدافعة عندهن ولا غنى . وقال النضر بن شميل : الخوالف من لا خير فيه . وقال النحاس : يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة ، وهذا جمعه بحسب اللفظ ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم . وقالت فرقة : الخوالف جمع خالف ، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك ، والظاهر أن قوله : ( وطبع ) خبر من الله بما فعل بهم . وقيل : هو استفهام ، أي : أو طبع على قلوبهم ، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والضلال ؟

( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) : لما ذكر أن أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد وفروا من القتال ، وذكر ما أثر ذلك فيهم من الطبع على قلوبهم - ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد ، وذلك ما لهم من الثواب ، ولكن وضعها أن تقع بين متنافيين ، ولما تضمن قول المنافقين ( ذرنا ) ، واستئذانهم في القعود ; كان ذلك تصريحا بانتفاء الجهاد ، فكأنه قيل : رضوا بكذا ولم يجاهدوا ، ولكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا . والمعنى : إن تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية . كقوله تعالى : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) ، ( فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ) والخيرات : جمع خيرة ؛ وهو المستحسن من كل شيء ، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ ، وكثرة استعماله في النساء ، ومنه : ( فيهن خيرات حسان ) . وقال الشاعر :


ولقد طعنت مجامع الربلات     ربلات هند خيرة الملكات



وقيل : المراد بالخيرات هنا الحور العين . وقيل : المراد بها الغنائم من الأموال والذراري . وقيل : أعد الله لهم جنات ، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية