صفحة جزء
( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) : قرأ نافع وابن عامر : ( أسس بنيانه ) مبنيا للمفعول في الموضعين . وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنيا للفاعل ، وبنصب ( بنيان ) . وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول ، والثانية على بنائه للفاعل . وقرأ نصر بن علي ، ورويت عن نصر بن عاصم : ( أسس بنيانه ) ، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضا : ( أساس ) جمع أس . وعن نصر بن عاصم : ( أسس ) بهمزة مفتوحة وسين مضمومة . وقرئ : ( إساس ) بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى البنيان . وقرئ : " أساس " بفتح الهمزة ، و " أس " بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان ، فهذه تسع قراءات . وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم : ( أفمن أسس ) بالتخفيف والرفع ، ( بنيانه ) بالجر على الإضافة ، فـ ( أسس ) مصدر أس الحائط يؤسه أسا وأسسا . وعن نصر أيضا : أساس بنيانه كذلك ، إلا أنه بالألف ، وأس وأسس وأساس كل مصادر . انتهى . والبنيان مصدر كالغفران ، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق . وقيل : هو جمع واحده بنيانة ، قال الشاعر :


كبنيانة القاري موضع رحلها وآثار نسعيها من الدف أبلق



وقرأ عيسى بن عمر : ( على تقوى ) بالتنوين ، وحكى هذه القراءة سيبويه ، وردها الناس . قال ابن جني : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كأرطى . وقرأ جماعة ، منهم حمزة وابن عامر ، وأبو بكر : ( جرف ) بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان . وقيل : الأصل الضم . وفي مصحف أبي : ( فانهارت به قواعده في نار جهنم ) ، والظاهر أن هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء أو مسجد الرسول ، ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين . وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين . وروى سعيد بن جبير : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رئي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وقيل : هذا ضرب مثل ، أي : من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أن بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم . قال ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم ، قاله قتادة ، وابن جريج . و ( خير ) لا شركة بين الأمرين في ( خير ) إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل .

وقال الزمخشري : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ، ورسوله - خير ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازا عن ما ينافي التقوى . فإن قلت : فما معنى قوله تعالى : ( فانهار به في نار جهنم ) ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل ، قيل : ( فانهار به ) على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أن الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، وكنه أمره ، والفاعل ( فانهار ) ، أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، [ ص: 101 ] أو انهار الشفا أو الجرف به ، أي : بالبنيان ، ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره . ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته ، فبنوه ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله .

( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدرا ، أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبنى ، فيكون على حذف مضاف ، أي : لا يزال بناء المبنى . قال ابن عباس : لا يزالون شاكين . وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظا في قلوبهم ، أي سبب غيظ . وقيل : كفرا في قلوبهم . وقال عطاء : نفاقا في قلوبهم . وقال ابن جبير : أسفا وندامة . وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه . وقال قتادة : في الكلام حذف ، تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة ، أي : حزازة وغيظا في قلوبهم . وقال ابن عطية : " الذي بنوا " تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه . والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك . ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام . فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء . وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر . وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة . قال ابن عطية : ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوءا . والآية إنما عنت من أبطن سوءا . وليس مجمع منهم . ويحتمل أن يكون المعنى : لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم . وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق . وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سببا لها ، وكونه سببا لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بغضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلا ونهبا ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية ؟ انتهى ، وفيه تلخيص .

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : ( إلا أن تقطع قلوبهم ) بفتح التاء ، أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنيا للمفعول . وقرئ : ( يقطع ) بالتخفيف . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : ( إلى أن نقطع ) ، وأبو حيوة : ( إلى أن تقطع ) بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب ( قلوبهم ) خطابا للرسول ، أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة . وفي مصحف عبد الله : ( ولو قطعت قلوبهم ) ، وكذلك قرأها أصحابه . وحكى أبو عمرو هذه القراءة : ( إن قطعت ) بتخفيف الطاء . وقرأ طلحة : ( ولو قطعت قلوبهم ) خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل مخاطب . وفي مصحف أبي : ( حتى الممات ) ، وفيه : ( حتى تقطع ) . فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل . وأما على من قرأه مبنيا للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت ، أي : إلى أن يموتوا . وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور . وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه . قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هما . وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة فالريبة قائمة فيها متمكنة . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه [ ص: 102 ] بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم . ( والله عليم ) بأحوالهم ، ( حكيم ) فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية