صفحة جزء
( ولما جاءهم رسول ) : الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل ، أو على علمائهم ، والرسول ، محمد - صلى الله عليه وسلم - أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، أو معناه الرسالة ، فيكون مصدرا ، كما فسروا بذلك قوله :


لقد كذب الواشون ما بحت عنده بليلى ولا أرسلتهم برسول



أي برسالة ، أقوال ثلاثة . والظاهر الأول ؛ لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد - صلى الله عليه [ ص: 325 ] وسلم - ألا ترى إلى قوله : ( قل ) قل ، و ( فإنه نزله على قلبك ) ، ( ولقد أنزلنا إليك ) ، فصار ذلك كالالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب ، ووصف بقوله : ( من عند الله مصدق ) : تفخيما لشأنه ، إذ الرسول على قدر المرسل . ثم وصف أيضا بكونه مصدقا لما معهم ، قالوا : وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة ، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو تصديقه : إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله ، وأنه المنزل على موسى ، أو تصديقه : إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة ، أقوال أربعة . وإذا فسر بعيسى ، فتصديقه هو بالتوراة ، وإذا فسر بالرسالة ، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز . وقرأ ابن أبي عبلة : مصدقا بالنصب على الحال ، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله : ( من عند الله ) .

( لما معهم ) : هو التوراة . وقيل : جميع ما أنزل إليهم من الكتب ، كزبور داود ، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها .

( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة ، وهو مفعول ثان لأوتوا ، على مذهب الجمهور ، ومفعول أول على مذهب السهيلي . وقد تقدم القول في ذلك .

( كتاب الله ) : هو مفعول بنبذ . فقيل : كتاب الله هو التوراة . ومعنى نبذهم له : اطراح أحكامه ، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ الكفر ببعض ، كفر بالجميع . وقيل : الإنجيل ، ونبذهم له : اطراحه بالكلية . وقيل : القرآن ، وهذا أظهر ، إذ الكلام مع الرسول . فصار المعنى : أنه يصدق ما بين أيديهم من التوراة ، وهم بالعكس ، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه . وأضاف الكتاب إلى الله تعظيما له ، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق ، فصار ذلك غاية في ذمهم ، إذ جاءهم من عند الله بكتابه المصدق لكتابهم ، وهو شاهد بالرسول والكتاب ، فنبذوه .

( وراء ظهورهم ) ، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة . تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق :


تميم بن مر لا تكونن حاجتي     بظهر ولا يعيا عليك جوابها



وقالت العرب ذلك ؛ لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه ، ومنه : ( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) . وقال في المنتخب : النبذ والطرح والإلقاء متقاربة ، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس ، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين .

( كأنهم لا يعلمون ) : جملة حالية ، وصاحب الحال فريق ، والعامل في الحال نبذ ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل ؛ لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به ؛ لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة . ومتعلق العلم محذوف ، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه ، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد . وقال الشعبي : هو بين أيديهم يقرءونه ، ولكنهم نبذوا العمل به . وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير ، وحلوه بالذهب ، ولم يحلوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه . انتهى كلامه . وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة . وقال الماوردي : كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق . وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله ، وأن كل واحد منها حق ، والعمل به واجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية