صفحة جزء
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) : لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا ; خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربيا قرشيا ، يبلغهم عن الله ، متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه قال : يا معشر العرب ، لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون خطابا لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله : [ ص: 118 ] ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) ولما كان المخاطبون عاما ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم - جاء الخطاب عاما بقوله : ( عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) ، أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك . ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة ; جاء متعلقها خاصا ، وهو قوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) . ألا ترى إلى قوله : ( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) وقال : ( أعزة على الكافرين ) وقال في زناة المؤمنين : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) . قال ابن عطية : وقوله ( من أنفسكم ) يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إني من نكاح ولست من سفاح " معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا . انتهى . وصف الله نبيه - عليه السلام - بستة أوصاف : الرسالة ؛ وهي صفة كمال الإنسان ; لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أن يكون واسطة بين الله وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف بدئ بذكرها . وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطابا للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة . وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة . ومن كونه من أنفسهم ، لأن من كان منك ود لك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك . وكونه حريصا على هدايتهم ، وهو أيضا من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية . وكونه رءوفا رحيما بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين الله . ( إنما المؤمنون إخوة ) المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك .

وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : ( من أنفسكم ) بفتح الفاء . ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي الله عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء . والظاهر أن " ما " مصدرية في موضع الفاعل بـ ( عزيز ) ، أي : يعز عليه مشقتكم ، كما قال :


يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا



أي : يسر المرء ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون ( ما عنتم ) مبتدأ ، أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب . وأجاز الحوفي أن يكون ( عزيز ) مبتدأ ، و ( ما عنتم ) الخبر ، وأن تكون " ما " بمعنى الذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين . وقال ابن القشيري : ( عزيز ) صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : ( عليه ما عنتم ) ، أي : يهمه أمركم . انتهى . والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله : ( لأعنتكم ) . وقال ابن عباس : هنا مشقتكم . وقال الضحاك : إثمكم . وقال سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم . وقال العتبي : ما ضركم . وقال ابن الأنباري : ما أهلككم . وقيل : ما غمكم . والأولى أن يضمر في ( عليكم ) ، أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : ( إن تحرص على هداهم ) وقوله : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) . وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة . وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم [ ص: 119 ] أن تدخلوا النار . وقيل : حريص على دخولكم الجنة . وإنما احتيج إلى الإضمار ؛ لأن الحرص لا يتعلق بالذوات . ويحتمل ( بالمؤمنين ) أن يتعلق بـ ( رءوف ) ، ويحتمل أن يتعلق بـ ( رحيم ) ، فيكون من باب التنازع . وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم ، فتقول : زيدا ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين . وقال قوم : بالتوزيع ، رءوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين . وقيل : رءوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره . وقيل : رءوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم . وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) ، وقال تعالى : ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) .



التالي السابق


الخدمات العلمية