صفحة جزء
( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) : ذكر ما يقتضي التذكير ؛ وهو كون مرجع الجميع إليه ، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ، ثم استأنف الإخبار ، وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وانتصب ( وعد الله ) و ( حقا ) على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير : وعد الله وعدا ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل ، وذلك كقوله : ( صبغة الله ) و ( صنع الله ) والتقدير : في ( حقا ) حق ذلك حقا . وقيل : انتصب ( حقا ) بـ ( وعد ) ، على تقدير : في أي وعد الله في حق . وقال علي بن سليمان : التقدير : وقت حق ، وأنشد :


أحقا عباد الله أن لست خارجا ولا والجا إلا علي رقيب



وقرأ عبد الله ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وسهل بن شعيب : ( أنه يبدأ ) بفتح الهمزة . قال الزمخشري : هو منصوب بالفعل ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه . وعد الله على لفظ الفعل ، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب ( حقا ) ، أي : حق حقا بدء الخلق ، كقوله :


أحقا عباد الله أن لست جائيا     ولا ذاهبا إلا علي رقيب



انتهى . وقال ابن عطية : وموضعها النصب على تقدير أحق أنه . وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير : لحق أنه . قال ابن عطية : ويجوز عندي أن يكون " أنه " بدلا من قوله : ( وعد الله ) . قال أبو الفتح : إن شئت قدرت : لأنه يبدأ ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد ، وإن شئت قدرت : وعد الله حقا أنه يبدأ ، ولا يعمل فيه المصدر الذي هو ( وعد الله ) ، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله . وقرأ ابن أبي عبلة : ( حق ) بالرفع ، فهذا ابتداء ، وخبره " أنه " . انتهى . وكون ( حق ) خبر مبتدأ و " أنه " هو المبتدأ - هو الوجه في الإعراب ، كما تقول : صحيح أنك تخرج ؛ لأن اسم " أن " معرفة ، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة . والظاهر أن بدء الخلق هو النشأة الأولى ، وإعادته هو البعث من القبور ، و ( ليجزي ) متعلق بـ ( يعيده ) ، أي : ليقع الجزاء على الأعمال . وقيل : البدء من التراب ، ثم يعيده إلى التراب ، ثم يعيده إلى البعث . وقيل : البدء نشأته من الماء ، ثم يعيده من حال إلى حال . وقيل : يبدؤه من العدم ، ثم يعيده إليه ، ثم يوجده . وقيل : يبدؤه في زمرة الأشقياء ، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء ، وبعكس ذلك . وقرأ طلحة : ( يبدئ ) من ( أبدأ ) رباعيا ، وبدأ وأبدأ بمعنى ، وبالقسط معناه بالعدل ، وهو متعلق بقوله : ( ليجزي ) ، أي : ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم ، فيوصل كلا إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال ، فينصف بينهم ويعدل ، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب ، وعلى هذا يكون : بالقسط منه تعالى . قال الزمخشري : أو يقسطهم بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأن الشرك ظلم ، قال الله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) والعصاة ظلام لأنفسهم ، وهذا أوجه لمقابلة قوله : ( بما كانوا يكفرون ) . انتهى ، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا ، وهو على طريقة الاعتزال ، والظاهر أن ( والذين كفروا ) مبتدأ ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله : ( الذين آمنوا ) ، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين . ولما كان [ ص: 125 ] الحديث مع الكفارة مفتتح السورة معهم ، ذكر شيئا من أنواع عذابهم فقال : ( لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) : لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياء ، أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة ، و ( جعل ) يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ( ضياء ) مفعولا ثانيا . ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالا ، ( والقمر نورا ) ، أي : ذا نور ، أو منورا أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران . وقيل : يجوز أن يكون ( ضياء ) جمعا ، كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد . ولما كانت الشمس أعظم جرما خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور . قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعا وستين مرة ، والقمر ليس كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم . وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : ( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ) . وقوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) يقتضي أن النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور . فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم وأبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام . ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحدا ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة . فمعنى الآية : أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون . ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقتضت هذه الآية .

وقرأ قنبل : ( ضياء ) هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء . ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لامه عينا ، فكانت همزة . وتطرفت الواو التي كانت عينا بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأن القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمر ، أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : ( والقمر قدرناه منازل ) وعاد الضمير عليه وحده ؛ لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزئ بذكر أحدهما كما قال : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) وكما قال الشاعر :


رماني بأمر كنت منه ووالدي     بريئا ومن أجل الطوي رماني



والمنازل : هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت . واللام متعلقة بقوله : ( وقدره منازل ) . قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ انتهى . يريد أن الجر إنما يكون مقتضيا أن الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده ، [ ص: 126 ] والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ . وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه . وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع . ومعنى ( بالحق ) متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثا كما جاء ( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ) وقال ابن جرير : الحق هنا هو الله تعالى ، والمعنى : ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه . انتهى . وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمرا إلا بزيد . وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته . وقرأ ابن مصرف : ( والحساب ) بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : ( يفصل ) بالياء جريا على لفظة الله ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح . والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية