صفحة جزء
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ ص: 127 ] أي يزيد في هواهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم ، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال : ( يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به . وفي الحديث : " إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقوده إلى الجنة " وبعكس هذا في الكافر . وقال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها بعد الموت . قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا ; كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلا أنه حذف الواو . وقيل : معناه تقدمهم إلى الثواب ، من قول العرب : القدم تهدي الساق . وقال الحسن : يرحمهم . وقال الكلبي : يدعوهم . والظاهر أن ( تجري ) مستأنفا ، فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين : أحدهما : هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار ، وذلك في الآخرة . كما تضمنت الآية في الكفار شيئين : أحدهما : اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه ، والثاني : مقرهم ومأواهم وذلك النار ، فصار تقسيما للفريقين في المعنى . وتقدم قول القفال أن يكون ( تجري ) معطوفا حذف منه الحرف ، وأن يكون حالا . ومعنى ( من تحتهم ) ، أي : من تحت منازلهم . وقيل : من بين أيديهم ، وليس التحت الذي هو بالمسافة ، بل يكون إلى ناحية من الإنسان . ومنه : ( قد جعل ربك تحتك سريا ) وقال : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) .

قال الزمخشري : فإن قلت : دلت هذه الآية على أن الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور . قلت : الأمر كذلك ، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل ; كأنه قال : إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ثم قال : ( بإيمانهم ) ، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وجوزوا ( في جنات النعيم ) أن يتعلق بـ ( تجري ) ، وأن يكون حالا من الأنهار ، وأن يكون خبرا بعد خبر لإن ، ومعنى ( دعواهم ) : دعاؤهم ونداؤهم ؛ لأن اللهم نداء الله ، والمعنى : اللهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت : اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد . وقيل : عبادتهم كقوله : ( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ) ولا تكليف في الجنة ، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ ، وأطلق عليه العبادة مجازا . وقال أبو مسلم : فعلهم وإقرارهم . وقال القاضي : طريقهم في تقديس الله وتحميده . ( وتحيتهم ) أي : ما يحيي به بعضهم بعضا ، فيكون مصدرا مضافا للمجموع ، لا على سبيل العمل ، بل يكون كقوله : ( وكنا لحكمهم شاهدين ) وقيل : يكون مضافا إلى المفعول ، والفاعل الله تعالى أو الملائكة ، أي : تحية الله إياهم ، أو تحية الملائكة إياهم . ( وآخر دعواهم ) ، أي : خاتمة دعائهم وذكرهم . قال الزجاج : أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه ، ويختمون بشكره والثناء عليه . وقال ابن كيسان : يفتتحون بالتوحيد ، ويختمون بالتحميد . وعن الحسن البصري ، يعزوه إلى الرسول : أن أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح . و " أن " المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف ، والجملة بعدها خبر " أن " ، و " أن " وصلتها خبر قوله : ( وآخر ) . وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، ويعقوب : ( أن الحمد ) زبالتشديد ، ونصب ( الحمد ) . قال ابن جني : ودلت على أن قراءة الجمهور بالتخفيف ورفع ( الحمد ) هي على أن " أن " هي المخففة كقول الأعشى :

[ ص: 128 ]

في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل



يريد : أنه هالك ، إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف . وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة ، وزعم صاحب النظم أن " أن " هنا زائدة ، و ( الحمد لله ) خبر ( وآخر دعواهم ) ، وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين ، وليس هذا من محال زيادتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية