صفحة جزء
( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها )

[ ص: 141 ] أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال : ( ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ) ضرب مثلا عجيبا غريبا للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها ، وأنها بحال ما تعز وتسر ، تضمحل ويئول أمرها إلى الفناء .

وقال الزمخشري : هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض [ ص: 142 ] في جفافه وذهابه حطاما بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه ، انتهى .

وإنما هنا ليست للحصر لا وضعا ولا استعمالا ، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالا غير هذا ، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة ، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول .

والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به ، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع . وقيل : شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف ، فيكون التقدير : كنبات ماء ، فحذف المضاف .

وقيل : شبهت الحياة بحياة مقدرة على [ ص: 143 ] هذه الأوصاف ، فيكون التقدير : كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء . قيل : ويقوي هذا قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها .

والسماء إما أن يراد من السحاب ، وإما أن يراد من جهة السماء ، والظاهر أن النبات اختلط بالماء . ومعنى الاختلاط : تشبثه به ، وتلقفه إياه ، وقبوله له ، لأنه يجري له مجرى الغذاء ، فتكون الباء للمصاحبة .

وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال : اختلط بصاحبه ، فلذلك فسره بعضهم بقوله : خالطه الماء وداخله ، فغذى كل جزء منه . وقال الكرماني : فاختلط به اختلاط مجاورة ، لأن الاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض ، انتهى .

ولا يمتنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل ، فلا تقول : إنه اختلاط مجاورة .

وقيل : اختلط اختلف وتنوع بالماء ، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير . وقيل : معنى اختلط تركب ، وقيل : امتد وطال . وقال الزمخشري : فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا . وقال ابن عطية : وصلت فرقة النبات بقوله فاختلط أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، انتهى .

وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية ، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله : فاختلط هو ضمير يعود على الماء أي : فاختلط الماء بالأرض . ويقف هذا الذاهب على قوله : فاختلط ، ويستأنف ( به نبات ) على الابتداء ، والخبر المقدم .

قال ابن عطية : يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل ، انتهى .

والوقف على قوله : فاختلط ، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى ، الفصيح اللفظ ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد ، والمعنى الضعيف . ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض ، أو بالماء نبات الأرض ، لم يكد ينعقد كلاما من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة ، ولولا أن ابن عطية ذكره وخرجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا .

ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره ، بين أن المراد أحد القسمين بمن فقال : مما يأكل الناس ، كالحبوب ، والثمار ، والبقول ، والأنعام كالحشيش وسائر ما يرعى .

قال الحوفي : من متعلقة باختلط . وقال أبو البقاء : مما يأكل حال من النبات ، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفا لأن المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفا .

وقول أبي البقاء هو الظاهر ، وتقديره : كائنا مما يأكل ، وحتى غاية ، فتحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولا حتى تصح الغاية . فإما أن يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا ، أو يتجوز في فاختلط ، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا .

وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت ، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة ، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتست وتزينت بأنواع الحلي ، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة ، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب ، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس .

وازينت : أي بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار ، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيدا لقوله : أخذت الأرض زخرفها .

واحتمل أن لا يكون تأكيدا ، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين ، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين .

ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة . وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام .

وقرأ أبي ، وعبد الله ، وزيد بن علي ، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت .

وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، وابن يعمر ، والحسن ، والشعبي ، وأبو العالية ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، و عيسى الثقفي : وأزينت على وزن : [ ص: 144 ] أفعلت ، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت .

وصحت الياء فيه على جهة الندور ، كأعبلت المرأة . والقياس : وأزانت ، كقولك : وأبانت . وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت ، قاله عنه صاحب اللوامح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احمارت ، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين ، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة . ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :


إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت

وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة : وازيانت بنون مشددة وألف ساكنة قبلها . قال ابن عطية : وهي قراءة أبي عثمان النهدي .

وقرأت فرقة : وازاينت ، والأصل : وتزاينت فأدغم ، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين . وقيل : بمعنى : أيقنوا وليس بسديد ، ومعنى القدرة عليها : التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها ، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات .

والضمير في أهلها عائد على الأرض ، وهو على حذف مضاف أي : أهل نباتها . وقيل : الضمير عائد على الغلة . وقيل : على الزينة ، وهو ضعيف .

وجواب إذا قوله : ( أتاها أمرنا ) ، كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفأر والجراد . وقيل : أتاها أمرنا بإهلاكها ، وأبهم في قوله : ( ليلا أو نهارا ) ، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره ، ( أو ) : تكون أو للتنويع ، لأن بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلا وبعضها نهارا ، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما .

والحصيد : فعيل بمعنى : مفعول أي : المحصود ، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريح . وقال أبو عبيدة : الحصيد : المستأصل انتهى .

وعبر بحصيد عن التألف استعارة ، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيدا لعلاقة ما بينهما من الطرح على الأرض .

وقيل : يجوز أن تكون تشبيها بغير الأداة والتقدير : فجعلناها كالحصيد . وقوله : ( كأن لم تغن بالأمس ) : مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها .

وقرأ الحسن وقتادة : كأن لم يغن بالياء على التذكير . فقيل : عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع ، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله : عليها وفي قوله : ( أتاها ) ( فجعلناها ) . وقيل : عائد على الزخرف ، والأولى عوده على الحصيد أي : كأن لم يغن الحصيد .

وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر : كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل . وقال الأعشى : طويل الثواء طويل التغني ، وهو من غني بكذا أقام به . قال الزمخشري : والأمس مثل في الوقت . كأنه قيل : كأن لم تغن آنفا ، انتهى .

وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ، ولا هو مرادف كقوله : آنفا ، لأن آنفا معناه : الساعة ، والمعنى : كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان .

ولو أن قائلا قال في غير القرآن : كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى ، لأنه لا وجود لها الساعة ، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة ؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي ، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى حالة العدم ، فكأن حالة الوجود ما سبقت له .

وفي مصحف أبي : كأن لم تغن بالأمس ، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها . وفي التحرير : نفصل الآيات ، رواه عنه ابن عباس . وقيل في مصحفه : وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ، وفي التحرير . وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبي : كأن لم تغن بالأمس ، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها ، ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى . ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ، أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل .

وقرأ أبو الدرداء : لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية