صفحة جزء
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الكفار المناقضين في القرآن ، ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يئولون إليه في الآخرة .

وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا ، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ) الآية . وقال مجاهد : في الكفرة ، وفي أهل الرياء من المؤمنين .

وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرائين ، فتلا هذه الآية . وقال أنس : هي في اليهود والنصارى . قال ابن عطية : ومعنى هذا : أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم .

وقيل : في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فأسهم لهم ، ومعنى ( يريد الحياة الدنيا ) أي : يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط ، ولا يعتقد آخرة ، فإن الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء ، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته ، وإن اندرج في العموم المراءون من أهل القبلة ، كما ترى أحدهم إذا صلى إماما يتنغم بألفاظ القرآن ، ويرتله أحسن ترتيل ، ويطيل ركوعه وسجوده ، ويتباكى في قراءته ، وإذا صلى وحده اختلسها اختلاسا ، وإذا تصدق أظهر صدقته أمام من يثني عليه ، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس ، وأهل الرباط المتصدق عليهم .

وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه ، كما جاء في : السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جدا ، وإذا تعلم علما راءى به وتبجح ، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا .

وقد فشا الرياء في هذه الآية فشوا كثيرا ، حتى لا تكاد ترى مخلصا لله لا في قول ، ولا في فعل ، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة .

وقرأ الجمهور : نوف بنون العظمة ، وطلحة بن ميمون : يوف بالياء على الغيبة . وقرأ زيد بن علي : يوف بالياء مخففا مضارع أوفى . وقرئ : توف بالتاء مبنيا للمفعول ، و ( أعمالهم ) بالرفع ، وهو على هذه القراءات مجزوم جواب الشرط ، كما انجزم في قوله : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ) وحكي عن الفراء أن [ ص: 210 ] كان زائدة ، ولهذا جزم الجواب . ولعله لا يصح ، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد ، وكان يكون مجزوما ، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضيا ، والجواب مضارعا ليس مخصوصا بكان ، بل هو جائز في غيرها .

كما روي في بيت زهير :


ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم

وقرأ الحسن : توفى بالتخفيف وإثبات الياء ، فاحتمل أن يكون مجزوما بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك ، وهي لغة لبعض العرب ، واحتمل أن يكون مرفوعا كما ارتفع في قول الشاعر : يقول وإن شل ريعان الجميع مخافة جهارا ويلكم لا تنفروا والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أن الآية في الكفار ، فإن اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم : ليس يجب لهم أو لا يحق لهم إلا النار كقوله : ( فجزاؤه جهنم ) وجائز أن يتغمدهم الله برحمته ، وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير .

والضمير في قوله : ( ما صنعوا فيها ) ، الظاهر أنه عائد على الآخرة ، والمحرور متعلق بحبط ، والمعنى : وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة .

ويجوز أن تتعلق بقوله : صنعوا ، فيكون عائدا على الحياة الدنيا ، كما عاد عليها في فيها قبل . وما في ( ما صنعوا ) بمعنى : الذي . أو مصدرية ، وباطل وما بعده توكيدا لقوله : ( وحبط ما صنعوا ) ، وباطل : خبر مقدم إن كان من عطف الجمل ، وما كانوا هو المبتدأ ، وإن كان خبرا بعد خبر ارتفع ما بباطل على الفاعلية .

وقرأ زيد بن علي : وبطل جعله فعلا ماضيا . وقرأ أبي وابن مسعود : وباطلا بالنصب ، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون ، فهو معمول خبر كان متقدما .

وما زائدة أي : وكانوا يعملون باطلا ، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين . وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان واسمها وخبرها ، ويشهد للجواب قوله تعالى : ( أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) ومن منع تأول . وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلا على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون ، فتكون ما فاعلة ، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر ، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له .

التالي السابق


الخدمات العلمية