صفحة جزء
( والله يختص برحمته من يشاء ) : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك . ويحتمل أن يكون يختص هنا لازما ، أي ينفرد ، أو متعديا ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك . يقال : اختص زيدا بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، والله يفرد برحمته من يشاء ، فيكون " من " فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيدا [ ص: 341 ] بكذا . فإذا كان لازما ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعديا ، كان موافقا لفعل المجرد نحو : كسب زيد مالا ، واكتسب زيد مالا . والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها ; أو النبوة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله علي والباقر ومجاهد والزجاج ; أو الإسلام ، قاله ابن عباس ; أو القرآن ، أو النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، هو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول .

( والله ذو الفضل العظيم ) : قد تقدم أن ذو بمعنى صاحب . وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبدا لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف . ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها . وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاز أن يقول : صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله : ( ذو الجلال ) ، ( ذو الفضل ) ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى : ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) ، وقوله تعالى : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) ، إن شاء الله تعالى . وتقدم تفسير ( الفضل العظيم ) ، ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوة . وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله : ( وكان فضل الله عليك عظيما ) ، أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح ; أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة ، ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) ، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول .

( ما ننسخ من آية ) : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غدا ، ويقول اليوم قولا ، ويرجع عنه غدا ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وإنه يناقض بعضه بعضا ، فنزلت .

وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلا ، ووقوعه شرعا ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطولوا في ذلك . وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه . وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير . ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير .

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير . فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره أن النحوي مثلا يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في الله ، أهي منقلبة من ياء أو واو ؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل . ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس . ثم استطرد إلى أوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب . ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم . فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي - قدس [ ص: 342 ] الله تربته - يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظن أن المتغايرات متماثلات .

وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمدا ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير . وأسأل الله التوفيق للصواب .

وما من قوله : ( ما ننسخ ) ، شرطية ، وهي مفعول مقدم ، وفي ( ننسخ ) التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم . ألا ترى إلى قوله : ( والله يختص ) ؟ ( والله ذو الفضل ) ؟ وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معا ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط . وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ؛ لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ؛ لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا . وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخا ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا ، وأبخلته إذا وجدته بخيلا . قال أبو علي : وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ . انتهى كلامه . فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب . وجعل الزمخشري الهمزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل - عليه السلام - بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية . وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين . تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيدا ينسخ الشيء ، أي يزيله . وقال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخا . وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضا هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ . وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ . وخرج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضا ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في " ننسأها " . انتهى كلامه . وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه . وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو " ننسأها " ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظا لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية . التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله : ( ما ننسخ من آية ) مفلتا من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى .

من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس . والمعنى : أي شيء من الآيات . وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله : ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) ، ( وما بكم من نعمة ) ، وقولهم : من يضرب من رجل أضربه . ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولا لفعل الشرط ؛ لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم . لو قلت : من يضرب أضرب ، كان عاما في مدلول من . فإذا قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، [ ص: 343 ] ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عاما للنوعين . ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز . قال : والمميز ما قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية . قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية . لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه . وجوزوا أيضا أن تكون من زائدة ، و " آية " حالا . والمعنى : أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا . قالوا : وقد جاءت الآية حالا في قوله تعالى هذه : ( ناقة الله لكم آية ) ، وهذا فاسد لأن الحال لا يجر بمن وجوزوا أيضا أن تكون ما مصدرا ، و " آية " مفعولا به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدرا جائز ، تقول : ما تضرب زيدا أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيدا أضرب مثله ، وقال الشاعر :


نعب الغراب فقلت بين عاجل ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب



وهذا فاسد ؛ لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عري الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط . ألا ترى أنك لو قلت : أي ضرب يضرب هندا أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ؛ لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على " أي ضرب " الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه " من " الزائدة إلا بشرط أن يتقدمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين . والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين .

( أو ننسأها ) : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة . وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز . وذكر أبو عبيد البكري في كتاب : ( اللآلئ ) ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال : وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزوا . وقرأ أبو حيوة كذلك ، إلا أنه ضم التاء . وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز . وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين . وقرأ الضحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز . وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة . وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة . وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها . وهكذا ثبت في مصحف عبد الله ، فتحصل في هذه اللفظة - دون قراءة الأعمش - إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها وننسك وننسكها . وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد الله وابن عباس أيضا ، أو الرفع ، قاله السدي . وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان من النسيان ضد الذكر ، فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ، فالمعنى : أو نترك إنزالها ، قاله الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظا يتلى ولا حكما يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال :


إن علي عقبة أقضيها     لست بناسيها ولا منسيها



أي لا آمر بتركها . وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ؛ لأنه لا يقال : أنسي بمعنى ترك . وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ؛ لأنه [ ص: 344 ] بمعنى نجعلك تتركها . وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نسي قرآنا . وقال أبو علي وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه . واحتج الزجاج بقوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ، أي لم نفعل . قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه . قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآنا جائز . وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ؛ لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : " أفي القوم أبي ؟ " قال : نعم يا رسول الله ، قال : " فلم لم تذكرني ؟ " قال : خشيت أنها رفعت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لم ترفع ولكني نسيتها " . انتهى كلام ابن عطية . وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوما أو يومين أو أكثر ، أخرها عن الورد . وأما في الآية فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظا وحكما ، قاله ابن زيد ، أونمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله : ( نأت بخير منها ) ؛ لأن ما أمضي وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها . وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها . ثم قال : أو ننسأها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها . وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن .

( نأت ) : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين .

( بخير منها ) : الظاهر أن خيرا هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ؛ لأن المأتى به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب .

( أو مثلها ) : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة . وذهب قوم إلى أن خيرا هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : ( أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية . ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله : ( أو مثلها ) ، فإنه لا يصح عطفه على قوله : ( بخير ) على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غير بدل هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف . وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار .

( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) ؟ قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : أم تريدون . وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي . انتهى كلامه ونقله . وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جدا ، خصوصا إذا دخل على النفي : ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) ؟ ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ؟ ( ألم نربك فينا وليدا ) ؟ [ ص: 345 ] ( ألم يجدك يتيما فآوى ) ؟ ( ألم نشرح لك صدرك ) ؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ؛ لأنه إنما يراد به التقرير . والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل . وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه . وفي قوله : ( ألم تعلم أن الله ) ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : ( من خير من ربكم ) ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : ألم تعلم أننا إلى قوله : ( ألم تعلم أن الله ) ، وقد تقدم تفسير قوله : ( إن الله على كل شيء قدير ) في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية