صفحة جزء
( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير ) الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر . وقال الزمخشري : التنوين عوض من المضاف إليه يعني : وإن كلهم ، وإن جميع المختلفين فيه . وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة . وقرأ الحرميان وأبو بكر : وإن كلا بتخفيف النون ساكنة . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : لما بالتشديد هنا وفي ( يس ) ، ( والطارق ) وأجمعت السبعة على نصب كلا ، فتصور في قراءتهم أربع قرآت : إحداها : تخفيف ( إن ، ولما ) ، وهي قراءة الحرميين . والثانية : تشديدهما ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص .

والثالثة : تخفيف ( إن ) وتشديد ( لما ) وهي قراءة أبي بكر . والرابعة : تشديد ( إن ) وتخفيف ( لما ) ، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو .

وقرأ أبي والحسن بخلاف عنه ، وأبان بن ثعلب : وإن : بالتخفيف ، كل : بالرفع ، لما : مشددا . وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : ( وإن كلا لما ) : بتشديد الميم وتنوينها ، ولم يتعرضوا لتخفيف إن ولا تشديدها .

وقال أبو حاتم : الذي في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم . وقرأ الأعمش : وإن كل إلا ، وهو حرف ابن مسعود ، فهذه أربعة وجوه في الشاذ .

فأما القراءة الأولى فإعمال إن مخففة كإعمالها مشددة ، وهذه المسألة فيها خلاف : ذهب الكوفيون إلى أن تخفيف ( إن ) يبطل عملها ، ولا يجوز أن تعمل . وذهب البصريون إلى أن إعمالها جائز ، لكنه قليل إلا مع المضمر ، فلا يجوز إلا إن ورد في شعر ، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان العرب . حكى سيبويه : أن الثقة أخبره : أنه سمع بعض العرب : أن عمر المنطلق ، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون . وأما ( لما ) فقال الفراء : فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر ( إن ) ، و ( ما ) موصولة بمعنى الذي كما جاء : ( فانكحوا ما طاب لكم ) والجملة من القسم المحذوف وجوابه [ ص: 267 ] الذي هو ( ليوفينهم ) صلة ( لما ) ، نحو قوله تعالى : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) وهذا وجه حسن ، ومن إيقاع ( ما ) على من يعقل قولهم : لا سيما زيد بالرفع ، أي : لا سي الذي هو زيد . وقيل : ( ما ) نكرة موصوفة وهي لمن يعقل ، والجملة القسمية وجوابها قامت مقام الصفة ، لأن المعنى : وإن كلا لخلق موفى عمله ، ورجح الطبري هذا القول واختاره . وقال أبو علي : العرف أن تدخل لام الابتداء على الخبر ، والخبر هنا هو : القسم وفيه لام تدخل على جوابه ، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف ، واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم ، فصل بينهما بما كما فصلوا بين إن واللام ، انتهى .

ويظهر من كلامه أن اللام في لما هي اللام التي تدخل في الخبر ، ونص الحوفي على أنها لام إن ، إلا أن المنقول عن أبي علي أن الخبر هو : ( ليوفينهم ) ، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم وجوابه . وقيل : اللام في لما موطئة للقسم ، وما مزيدة ، والخبر الجملة القسمية وجوابها ، وإلى هذا القول في التحقيق يئول قول أبي علي . وأما القراءة الثانية فتشديد إن وإعمالها في كل واضح . وأما تشديد لما فقال المبرد : هذا لحن ، لا تقول العرب : إن زيدا لما خارج ، وهذه جسارة من المبرد على عادته .

وكيف تكون قراءة متواترة لحنا ، وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال وهو إن زيدا لما خارج هذا المثال لحن ، وأما في الآية فليس لحنا ، ولو سكت وقال كما قال الكسائي : ما أدري ما وجه هذه القراءة لكان قد وفق ، وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها .

فقال أبو عبيد : أصله لما منونا وقد قرئ كذلك ، ثم بني منه فعلى ، فصار كتترى نون إذ جعلت ألفه للإلحاق كأرطى ، ومنع الصرف إذ جعلت ألف تأنيث ، وهو مأخوذ من لممته ، أي : جمعته ، والتقدير : وإن كلا جميعا ليوفينهم ، ويكون جميعا فيه معنى التوكيد ككل ، ولا يقال ( لما ) هذه هي ( لما ) المنونة وقف عليها بالألف ، لأنها بدل من التنوين ، وأجرى الأصل مجرى الوقف ، لأن ذلك إنما يكون في الشعر . وما قاله أبو عبيد بعيد ، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم ، ولما يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ، ولم يملها أحد بالإجماع ، ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها ، وقيل : لما المشددة هي لما المخففة ، وشددها في الوقف كقولك : رأيت فرحا يريد : فرحا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا بعيد جدا ، وروي عن المازني . وقال ابن جني وغيره : تقع إلا زائدة ، فلا يبعد أن تقع لما بمعناها زائدة ، انتهى .

وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا . وقال المازني : إن هي المخففة ثقلت ، وهي نافية بمعنى : ما ، كما خففت إن ومعناها المثقلة ، ولما بمعنى : إلا ، وهذا باطل لأنه لم يعهد تثقيل إن النافية ولنصب كل ، وإن النافية لا تنصب . وقيل : لما بمعنى إلا ، كقولك : نشدتك بالله لما فعلت ، تريد : إلا فعلت ، وقاله الحوفي ، وضعفه أبو علي قال : لأن لما هذه لا تفارق القسم ، انتهى .

وليس كما ذكر ، قد تفارق القسم . وإنما يبطل هذا الوجه ، لأنه ليس موضع دخول إلا ، لو قلت : إن زيدا إلا ضربته ، لم يكن تركيبا عربيا . وقيل : لما أصلها لمن ما ، ومن هي الموصولة ، وما بعدها زائدة ، واللام في لما هي داخلة في خبر إن ، والصلة : الجملة القسمية ، فلما أدغمت من في ما الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون ، فاجتمع المثلان ، فأدغمت ميم من في ميم ما ، فصار لما وقالهالمهدوي .

وقال الفراء ، وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي : أصل لما لمن ما دخلت من الجارة على ما ، كما في قول الشاعر :


وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم

فعمل بها ما عمل في الوجه الذي قبله . وهذان الوجهان ضعيفان جدا لم يعهد حذف نون ( من ) ، ولا حذف نون ( من ) إلا في الشعر ، إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون : من المال .

وهذه كلها تخريجات ضعيفة جدا ينزه القرآن عنها . وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية ، وهو أن لما هذه هي لما الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه ، كما حذفوه في قولهم : [ ص: 268 ] قاربت المدينة ، ولما يريدون ولما أدخلها . وكذلك هنا التقدير : وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ، ويدل عليه قوله تعالى : ( ليوفينهم ربك أعمالهم ) ، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال : ( ليوفينهم ربك أعمالهم ) ، وكنت اعتقدت أني سبقت إلى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف ، وذكرت ذلك لبعض من يقرأ علي فقال : قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب ، ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه ، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال : ( لما ) هذه هي الجازمة ، حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم : خرجت ولما سافرت ، ولما ونحوه ، وهو سائغ فصيح ، فيكون التقدير : لما يتركوا ، لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) ، ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ، ثم بين ذلك بقوله : ( ليوفينهم ربك أعمالهم ) ، قال : وما أعرف وجها أشبه من هذا ، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن .

وأما القراءة الثالثة والرابعة فتخريجهما مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما ، وأما قراءة أبي ومن ذكر معه فـ ( إن ) نافية ، ولما بمعنى إلا ، والتقدير : ما كل إلا والله ليوفينهم . وكل مبتدأ ، والخبر الجملة القسمية ، وجوابها التي بعد لما كقراءة من قرأ ( وإن كل لما جميع ) ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون بمعنى إلا . قال أبو عبيد : لم نجد هذا في كلام العرب ، ومن قال هذا لزمه أن يقول : رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك ، وهذا غير موجود .

وقال الفراء : أما من جعل ( لما ) بمعنى إلا ، فإنه وجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين بالله لما قمت عنا ، وإلا قمت عنا ، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر . ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمع في الكلام : ذهب الناس لما زيدا ؟ والقراءة المتواترة في قوله : ( وإن كل لما ) ، و ( إن كل نفس لما ) ، حجة عليهما .

وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي ، وكون العرب خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب الاستثناء ، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه . وأما قراءة الزهري وابن أرقم : لما بالتنوين والتشديد ، فلما مصدر من قولهم : لممت الشيء : جمعته ، وخرج نصبه على وجهين : أحدهما : أن يكون صفة لكلا ، وصف بالمصدر وقدر كل مضافا إلى نكرة ، حتى يصح الوصف بالنكرة ، كما وصف به في قوله : ( أكلا لما ) وهذا تخريج أبي علي . والوجه الثاني : أن يكون منصوبا بقوله : ( ليوفينهم ) على حد قولهم : قياما لأقومن ، وقعودا لأقعدن ، فالتقدير : توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم . وهذا تخريج ابن جني ، وخبر إن على هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه .

وأما ما في مصحف أبي فإن نافية ، ومن زائدة . وأما قراءة الأعمش فواضحة ، والمعنى : جميع ما لهم . قيل : وهذه الجملة تضمنت توكيدات بإن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم ، وبما إذا كانت زائدة ، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة في وعد الطائع ووعيد العاصي ، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي : ( إنه بما يعملون خبير ) . وهذا الوصف يقتضي علم ما خفي . وقرأ ابن هرمز : ( بما تعملون ) على الخطاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية