صفحة جزء
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) : لما أمر بالعفو والصفح ، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه ، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس ، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق . قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود : راعنا ؛ لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنين بما يحطه . انتهى كلامه . وليس له ذلك الظهور .

( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) : لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير ، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما . والقول في إعراب ما ومن خير ، كالقول في إعراب : ما ننسخ من آية ، من أنهم قالوا : يجوز أن تكون ما مفعولة ، ومن خير : حال أو مصدر ، ومن خير : مفعول ، أو مفعولة ، ومن خير : تمييز أو مفعولة ، ومن خير ، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه . لأنفسكم : متعلق بتقدموا ، وهو على حذف مضاف ، أي لنجاة أنفسكم وحياتها ، قال تعالى : ( يقول ياليتني قدمت لحياتي ) . وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة ، والأظهر العموم ، تجدوه جواب الشرط ، والهاء عائدة على ما ، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية . ونفس ذلك المنقضي لا يوجد ، فإنما ذلك على حذف مضاف ، أي تجدوا ثوابه . فجعل وجوب ما ترتب عليه وجودا له ، وتجدوه متعد إلى واحد ؛ لأنه بمعنى الإصابة . والعامل في قوله : ( عند الله ) ، إما نفس الفعل ، أو محذوف ، فيكون في معنى الحال من الضمير ، أي تجدوه مدخرا ومعدا عند الله . والظرفية هنا المكاتبة ممتنعة ، وإنما هي مجاز بمعنى القبل ، كما تقول : لك عندي يد ، أي في قبلي ، أو بمعنى في علم الله نحو : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة ) ، أي في علمه وقضائه ، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيما كقوله : ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ) .

( إن الله بما تعملون بصير ) : المجيء بالاسم الظاهر يدل على استقلال الجمل ، فلذلك جاء إن الله ، ولم يجئ إنه ، مع إمكان ذلك في الكلام . وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها ، تتضمن الوعد والوعيد . وكنى بقوله : بصير عن علم المشاهد ، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه ، ومن كان مبصرا لفعلك ، لم يخف عليه ، هل هو خير أو شر ، وأتى بلفظ " بصير " دون مبصر ، إما لأنه من بصر ، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان ، أو لأنه فعيل للمبالغة بمعنى مفعل ، الذي هو للتكثير . [ ص: 350 ] ويحتمل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، قال بعض الصوفية : على المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات ، واثقا بأن ما قدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات ، وأنشدوا :


سابق إلى الخير وبادر به فإنما خلفك ما تعلم     وقدم الخير فكل امرئ
على الذي قدمه يقدم



( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة ، وتناظرهم بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود : ( ليست النصارى على شيء ) ، وقالت النصارى : ( ليست اليهود على شيء ) ، وكفروا بالتوراة وموسى ، قاله ابن عباس . والضمير في : وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولهم في القول ، لن يدخل الجنة ؛ لأن القول صدر من الجميع ، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك ، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكما على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى ، ولذلك جاء في العطف بـ " أو " التي هي للتفصيل والتنويع ، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين ، وتضليل بعضهم بعضا ، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة ، ونظيره في لف الضمير ، وفي كون أو للتفصيل قوله : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) ، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية ، ولا النصراني يأمر باليهودية ، ولما كان دخول الجنة متأخرا ، جاء النفي بـ " لن " المخلصة للاستقبال ، ومن فاعلة بـ " يدخل " ، وهو من الاستثناء المفرغ ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من . ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلا ، أو يكون منصوبا على الاستثناء ، إذ يجيز أن يراعي ذلك المحذوف ، ويجعله هو الفاعل ، ويحذفه ، وهو لو كان ملفوظا به لجاز البدل والنصب على الاستثناء ، فكذلك إذا كان محذوفا وحمل أولا على لفظ من ، فأفرد الضمير في كان ، ثم حمل على المعنى ، فجمع في خبر كان فقال : ( هودا أو نصارى ) . وهود : جمع هائد ، كعائد وعود . وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري . وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون ، ومن كان قائمين الزيدان . فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك . وذهب قوم إلى المنع ، وإليه ذهب أبو العباس ، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية ، فإن هودا في الأظهر جمع هائد ، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء ، وكقول الشاعر :


وأيقظ من كان منكم نياما



فنيام : جمع نائم ، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء ، وقدم هودا على نصارى لتقدمها في الزمان . وقرأ أبي : إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ، فحمل الاسم والخبر معا على اللفظ ، وهو الإفراد والتذكير .

( تلك أمانيهم ) : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك ، وطلب الدليل على صحة دعواهم . وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة ، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث ، فحمله الزمخشري على الجمع قال : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم . انتهى كلامه . وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر ؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء ، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول ، فيبعد أن يشار إليها . وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف ، وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ ، وأمانيهم خبرا . فقلب هو الوضع ، إذ قال : أن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه . وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ ، فلا يجوز تقديمه ، مثل زيد ، زهير : نص على ذلك النحويون . فإن تقدم [ ص: 351 ] ما هو أصل في أن يشبه به ، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة ، إذ جعل الفرع أصلا والأصل فرعا كقولك : الأسد زيد شجاعة ، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم : ( لن يدخل الجنة ) ، أي تلك المقالة أمانيهم ، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل من كتاب الله ، ولا من أخبار من رسول ، وإنما ذلك على سبيل التمني . وإن كانوا هم جازمين بمقالتهم ، لكنها لما لم تكن عن برهان ، كانت أماني ، والتمني يقع بالجائز والممتنع . فهذا من الممتنع ، ولذلك أتى بلفظ الأماني ، ولم يأت بلفظ مرجواتهم ؛ لأن الرجاء يتعلق بالجائز ، تقول : ليتني طائر ، ولا يجوز ، لعلني طائر ، وإنما أفرد المبتدأ لفظا ؛ لأنه كناية عن المقالة ، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير ، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين ، ولذلك جمع الخير ، فطابق من حيث المعنى في الجمعية . وقد تقدم شرح الأماني في قوله : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، فيحتمل أن يكون المعنى : تلك أكاذيبهم وأباطيلهم ، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم ، أو تلك تلاواتهم .

( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) : لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا ، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم . وفي هذا دليل على أن من ادعى نفيا أو إثباتا ، فلا بد له من الدليل . وتدل الآية على بطلان التقليد ، وهو قبول الشيء بغير دليل . قال الزمخشري : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل . إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم ، أي أوضحوا دعوتكم . وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة . وقيل : صادقين في إيمانكم . وقيل : في أمانيكم . وقيل معنى صادقين : صالحين كما زعمتم ، وكل ما أضيف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق . تقول : رجل صدق ، وصديق صدق ، ودالة صدق ، ومنه : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) . وقيل : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) : معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده ، ومنه : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) .

( بلى ) : رد لقولهم : ( لن يدخل الجنة ) ، والكلام فيها كالكلام الذي تقدم في قوله : ( بلى من كسب سيئة ) ، وقبل ذلك : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، وكلاهما فيه نفي وإيجاب ، إلا أن ذلك استثناء مفرغ من الأزمان ، وهذا استثناء مفرغ من الفاعلين . وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله : ( قل هاتوا برهانكم ) من النفي ؛ لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم ، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهانا ، وهذا ينبو عنه اللفظ .

( من أسلم وجهه لله ) : الكلام في : من ، كالكلام في : من ، من قوله : ( من كسب سيئة ) ، والأظهر أنها مبتدأة ، وجوزوا أن تكون فاعلة ، أي يدخلها من أسلم ، وإذا كانت مبتدأة ، فلا يتعين أن تكون شرطية . [ ص: 352 ] فالجملة بعدها هي الخبر ، وجواب الشرط ( فله أجره ) . وإذا كانت موصولة ، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب ، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية ، وإذا كانت من فاعلة فقوله : ( فله أجره ) جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن . والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر ؛ لأنه أشرف الأعضاء ، أو لأنه فيه أكثر الحواس ، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) ، ويحتمل أن يراد به الجهة ، والمعنى : أخلص طريقته في الدين لله . وقال مقاتل : أخلص دينه . وقال ابن عباس : أخلص عمله لله . وقيل : قصده . وقيل : فوض أمره إلى الله تعالى . وقيل : خضع وتواضع . وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال ، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضا . وهذا نظير ما يقوله النحوي : الفاعل زيد من قولك ، قام زيد ، وآخر يقول : جعفر من خرج جعفر ، وآخر يقول : عمرو من انطلق عمرو ، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم الله ، فيما جاء عنهم من هذا النوع .

( وهو محسن ) : جملة حالية ، وهي مؤكدة من حيث المعنى ؛ لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن . وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل ; وجعل معنى قوله : ( من أسلم وجهه لله ) : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن في عمله ، فصارت الحال هنا مبينة ، إذ من لا يشرك قسمان : محسن في عمله ، وغير محسن ، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه ، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة ، ولذلك فسر قوله : ( فله أجره ) الذي يستوجبه ، وقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان ، وفسر بالقيام بالأوامر ، والانتهاء عن المناهي .

( فله أجره عند ربه ) : العامل في عند هو العامل في له ، أي فأجره مستقر له عند ربه ، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظة ربه ، أي الناظر في مصالحه ومربيه ومدبر أحواله ، ليكون ذلك أطمع له ، فلذلك أتى بصفة الرب ، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله ، ولا بالظاهر بلفظ الله . فلم يأت فله أجره عنده ، لما ذكرناه ، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر ، ولم يأت فله أجره عند الله ، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب .

( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) : جمع الضمير في قوله : ( عليهم ولا هم يحزنون ) حملا على معنى من ، وحمل أولا على اللفظ في قوله : ( من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ) ، وهذا هو الأفصح ، وهو أن يبدأ أولا بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وقد تقدم تفسير هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : فلا خوف ، برفع الفاء من غير تنوين ، باختلاف عنه . وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم : فلا خوف ، بالفتح من غير تنوين ، وتوجيه ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية