صفحة جزء
وقال أبو عبد الله الرازي : اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان ، ثم ذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره ، ولا نسلم ما ذكره من أن الأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان . ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته ، فذكر أولا أكثرها منافع ، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام ، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام . والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها ، ودفء : مبتدأ وخبره ( لكم ) ، ويتعلق فيها بما في ( لكم ) من معنى الاستقرار . وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالا من دفء ، إذ لو تأخر لكان صفة . وجوز أيضا أن يكون ( لكم ) حالا من دفء وفيها الخبر ، وهذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها ، لا يجوز : قائما في الدار زيد ، فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف ، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش ، ومنعه الجمهور . وأجاز أيضا أن يرتفع ( دفء ) بـ ( لكم ) أو نعتها بـ ( الـ ) ، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب ; انتهى . ولا تسمى جملة ، لأن التقدير : خلقها لكم فيها دفء ، أو خلقها لكم كائنا فيها دفء ، وهذا من قبيل المفرد ، لا من قبيل الجملة . وجوزوا أن يكون ( لكم ) متعلقا بخلقها ، وفيها دفء ، استئناف لذكر منافع الأنعام . ويؤيد كون ( لكم فيها دفء ) يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله : ولكم فيها جمال ، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية . [ ص: 475 ] وقال ابن عباس : الدفء : نسل كل شيء ، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب . والظاهر أن نصب ( والأنعام ) على الاشتغال ، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت ، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام . وقال الزمخشري ، وابن عطية : يجوز أن يكون قد عطف على البيان ، وعلى هذا كون ( لكم ) استئناف ، أو متعلق بخلقها . وقرأ الزهري وأبو جعفر : دف ; بضم الفاء وشدها وتنوينها ، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها ، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف ، إذ يجوز تشديدها في الوقف . وقرأ زيد بن علي : دف ، بنقل الحركة ، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء . وقال صاحب اللوامح الزهري دف بضم الفاء من غير همز ، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة . ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء ، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا . وقال مجاهد : ومنافع الركوب ؛ الحمل ، والألبان ، والسمن ، والنضح عليها ، وغير ذلك . وأفرد منفعة الأكل بالذكر ، كما أفرد منفعة الدفء ، لأنهما من أعظم المنافع .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : تقدم الظرف في قوله : ومنها تأكلون ، مؤذن ، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها ( قلت ) : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم ، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به ، وكالجاري مجرى التفكه . وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص . وقد رددنا عليه ذلك في قوله : ( إياك نعبد ) والظاهر أن ( من ) للتبعيض كقولك : إذا أكلت من الرغيف . وقال الزمخشري : ويحتمل أن طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر ، والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وتكتسبون بإكراء الإبل ، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها ; انتهى . فعلى هذا يكون التبعيض مجازا ، أو تكون من للسبب . الجمال : مصدر جمل بضم الميم ، والرجل جميل ، والمرأة جميلة وجملاء ; عن الكسائي وأنشد :


فهي جملاء كبدر طالع بزت الخلق جميعا بالجمال



ويطلق الجمال ويراد به التجمل ، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد . والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر ، ويلقيه في ألقاب ، فتتعلق به النفس من غير معرفة . وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة : كالعلم ، والعفة ، والحلم ، وفي الأفعال : بوجودها ملائمة لمصالح الخلق ، وجلب المنفعة إليهم ، وصرف الشر عنهم . والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة ، والمعنى : أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا ، وكونه فيها من أهل السعة ، فمن الله تعالى بالتجمل بها ، كما من بالانتفاع الضروري ، لأن التجمل بها من أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها ، والعرب تفتخر بذلك . ألا ترى إلى قول الشاعر :


لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم     مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة     يروح على آثار شائهم النمر

. والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين ، والجمع عكر . والدثر : الكثير ، ويقال : أراح الماشية : ردها بالعشي من المرعى ، وسرحها يسرحها سرحا وسروحا أخرجها غدوة إلى المرعى ، وسرحت هي يكون متعديا ولازما ، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا [ ص: 476 ] للنجعة . وقدم الإراحة على السرح لأن الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر ، بخلاف وقت سرحها ، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية ، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء ، فيأتنس أهلها ، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها ، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) وقوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات ) ثم قال تعالى : ( والأنعام والحرث ) وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري : ( حينا ) فيهما بالتنوين ، وفك الإضافة . وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله : ( واتقوا يوما لا تجزي ) ويكون العامل في حينا على هذا ، إما المبتدأ لأنه في معنى التجمل ، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار . والأثقال : الأمتعة ، واحدها ثقل . وقيل : الأجسام ، لقوله تعالى : ( وأخرجت الأرض أثقالها ) أي أجساد بني آدم . وقوله : إلى بلد ، لا يراد به معين ، أي : إلى بلد بعيد توجهتم إليه لأغراضكم . وقيل : المراد به معين وهو مكة ، قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والربيع بن أنس . وقيل : مدينة الرسول . وقيل : مصر . وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على المراد ، إذ المنة لا تختص بالحمل إليها . ولم تكونوا بالغيه : صفة للبلد ، ويحتمل أن يكون التقدير بها ، وذلك تنبيه على بعد البلد ، وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا يصلون إليه إلا بالمشقة . أو يكون التقدير : لم تكونوا بالغيه بأنفسكم دونها إلا بالمشقة عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم . وقرأ الجمهور : بشق ، بكسر الشين . وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وعمر بن ميمون ، وابن أرقم : بفتحها . ورويت عن نافع وأبي عمرو ، وهما مصدران معناهما المشقة . وقيل : الشق ، بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم ، ويعني به : المشقة . وقال الشاعر في الكسر :


وذي إبل يسعى ويحسبها له     أخي نصب من شقها ودءوب



أي مشقتها . وشق الشيء : نصفه ، وعلى هذا حمله الفراء هنا أي : يذهبان نصف الأنفس ، كأنها قد ذابت تعبا ونصبا كما تقول : لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك ، وبقطعة من كبدك . ونحو هذا من المجاز . ويقال : أخذت شق الشاة أي نصفها ، والشق : الجانب ، والأخ الشقيق ، وشق : اسم كاهن . وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة ، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم . ولما ذكر تعالى مننه بالأنعام ومنافعها الضرورية ، ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية . وقرأ الجمهور : والخيل ، وما عطف عليه بالنصب ، عطفا على ( والأنعام ) . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع . ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه ، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز لكل الخيل ، خلافا لمن استدل بذلك . وانتصب ( وزينة ) ، ولم يكن باللام ، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف ، وكلاهما مفعول من أجله ، لأن التقدير : خلقها ، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب ، وهو : اتحاد الفاعل ، فعدي باللام . والزينة من وصف الخالق ، فاتحد الفاعل ، فوصل الفعل إليه بنفسه . وقال ابن عطية : وزينة : نصب بإضمار فعل تقديره : وجعلناها زينة . وروى قتادة عن ابن عباس : لتركبوها زينة ، بغير واو . قال صاحب اللوامح : والزينة ، مصدر أقيم مقام الاسم ، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها ، أو من لتركبوها . وقال الزمخشري : أي : وخلقها زينة لتركبوها ، أو يجعل زينة حالا من هاء ، وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال . وقال ابن عطية : والنصب حينئذ على الحال من الهاء في ( تركبوها ) . والظاهر نفي العلم عن ذوات ما يخلق تعالى ، فقال الجمهور : المعنى ما لا تعلمون من الآدميين والحيوانات والجمادات التي خلقها كلها لمنافعكم ، فأخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، لنزداد دلالة على قدرته بالإخبار ، وإن طوى عنا علمه حكمة له في طيه ، وما خلق تعالى من الحيوان [ ص: 477 ] وغيره لا يحيط بعلمه بشر . وقال قتادة : ما لا تعلمون أصل حدوثه كالسوس في النبات والدود في الفواكه . وقال ابن بحر : لا تعلمون كيف يخلقه . وقال مقاتل : هو ما أعد الله لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . قال الطبري : وزاد بعد في الجنة وفي النار لأهلها ، والباقي بالمعنى .

ورويت تفاسير في : ما لا تعلمون ، في الحديث عن ابن عباس ، ووهب بن منبه ، والشعبي ، الله أعلم بصحتها . ويقال : لما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعا ضروريا وغير ضروري ، أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالبا على سبيل الإجمال ، إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء والعد ، والقصد مصدر : يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والسبيل هنا مفرد اللفظ . فقيل : مفرد المدلول ، والـ فيه للعهد ، وهي سبيل الشرع ، وليست للجنس ، إذ لو كانت له لم يكن منها جائر . والمعنى : وعلى الله تبيين طريق الهدى ، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : إن من سلك الطريق القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه ، وإلى ذلك مصيره . وعلى أن الـ للعهد يكون الضمير في قوله : ومنها جائر ، عائد على السبيل التي يتضمنها معنى الآية ، كأنه قيل : ومن السبيل جائر ، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر ، لأن مقابلها يدل عليها . قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع ، وتكون ( من ) للتبعيض ، والمراد : فرق الضلالة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كأنه قال : ومن بنيات الطرق في هذه السبيل ، ومن شعبها . وقيل : الـ في السبيل : للجنس ، وانقسمت إلى مصدر ، وهو طريق الحق ، وإلى جائر وهو طريق الباطل ، والجائر : العادل عن الاستقامة والهداية كما قال :


يجور بها الملاح طورا ويهتدي



وكما قال الآخر :


ومن الطريقة جائر وهدى     قصد السبيل ومنه ذو دخل



قسم الطريقة : إلى جائر ، وإلى هدى ، وإلى ذي دخل ، وهو الفساد . وقال الزمخشري : ومعنى قوله : ( وعلى الله قصد السبيل ) : أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه ، لقوله : ( إن علينا للهدى ) ( فإن قلت ) : لم غير أسلوب الكلام في قوله : ومنها جائر ( قلت ) : ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل ، وعليه جائرها ، أو وعليه الجائر . وقرأ عبد الله : ومنكم جائر ، يعني ومنكم جائر عن القصد بسوء اختياره ، والله برئ منه . ولو شاء لهداكم أجمعين ، قسرا والجاء ; انتهى . وهو تفسير على طريقة الاعتزال . وقيل : الضمير في ( ومنها ) يعود على الخلائق ; أي : ومن الخلائق جائر عن الحق . ويؤيده قراءة عيسى : ومنكم جائر ، وكذا هي في مصحف عبد الله ، وقراءة علي : فمنكم جائر ، بالفاء . قال ابن عباس : هم أهل الملل المختلفة . وقيل : اليهود والنصارى والمجوس . ولهداكم : لخلق فيكم الهداية ، فلم يضل أحد منكم ، وهي مشيئة الاختيار . وقال الزجاج : لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان . قال ابن عطية : وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد ، لم يحصله الزجاج ، ووقع فيه رحمة الله من غير قصد ; انتهى . ولم يعرف ابن عطية أن الزجاج معتزلي ، فلذلك تأول أنه لم يحصله ، وأنه وقع فيه من غير قصد . وقال أبو علي : لو شاء لهداكم إلى الثواب ، أو إلى الجنة بغير استحقاق . وقال ابن زيد : لو شاء لمحض قصد السبيل دون الجائر . ومفعول شاء محذوف لدلالة ( لهداكم ) ، أي : ولو شاء هدايتكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية