صفحة جزء
( إن الله واسع عليم ) : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته . وجاء : ( إن ربك واسع المغفرة ) ، وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب . وقيل : واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد . وقيل : معناه عالم ، من قوله : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) ، على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد . وقيل : واسع القدرة . وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم ، دينه يسر . عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها . وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة . وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى : ( إن استطعتم ) ، الآية ، [ ص: 362 ] وقوله : ( ما يكون من نجوى ) الآية ، ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر ، كما قال تعالى : ( أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ) ، وكما قال :


فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع



وقال :


ولم يكن المغتر بالله إذ سرى     ليعجز والمعتز بالله طالبه



وقال :


أين المفر ولا مفر لهارب     وله البسيطان الثرى والماء



وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاما يندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره . وجاءت هذه الجملة مؤكدة بإن مصرحا باسم الله فيها دالة على الاستقلال . وقد قدمنا ذلك في قوله : ( تجدوه عند الله ) ، وكقوله : ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) ، وذلك أفخم وأجزل من الضمير ؛ لأن الضمير يشعر بقوة التعلق ، والظاهر يشعر بالاستقلال . ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله ؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها . ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر ؟ كما مثلناه ، وكقوله : ( فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت ) ، ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله ) ، وقال :


ليت شعري وأين مني ليت     إن ليتا وإن لوا عناء



( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ) : نزلت في اليهود ، إذ قالوا : ( عزير ابن الله ) ، أو في النصارى ، إذ قالوا : ( المسيح ابن الله ) ، أو في المشركين ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، أو في النصارى والمشركين ، أقوال أربعة ، والأخير قاله الزجاج . ولاختلافهم في سبب النزول ، اختلفوا في الضمير في و " قالوا " ، على من يعود ؟ فقيل : هو عائد على الجميع من غير تخصيص . فإن كلا منهم قد جعل لله ولدا ، قاله ابن إسحاق ، والجمهور على قراءة : وقالوا بالواو ، وهو آكد في الربط ، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها . وقيل : هو عطف على قوله : ( وسعى في خرابها ) ، فيكون معطوفا على معطوف على الصلة ، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة ، وهذا بعيد جدا ، ينزه القرآن عن مثله . وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما : قالوا بغير واو ، ويكون على استئناف الكلام ، أو ملحوظا فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو . وقال الفارسي : وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام . تقدم أن اتخذ : افتعل من الأخذ ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله : ( اتخذت بيتا ) ، قالوا : معناه صنعت وعملت ، وإلى اثنين فتكون بمعنى : صير . وكلا الوجهين يحتمل هنا . وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد ؛ لأن الولد يكون من جنس الوالد . فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع ، استحال ذلك ؛ لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث ، قديم ، لا أولية لقدمه ، وما عمله محدث ، فاستحال أن يكون ولد له . وإن جعلت اتخذ بمعنى صير ، استحال أيضا ؛ لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير ، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير ، فقد استحال ذلك . وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير ، كان أحد المفعولين محذوفا ، التقدير : وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولدا . والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد ، قال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) ، ( ما اتخذ الله من ولد ) ، ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) . وقال القشيري : أتى بالولد ، وهو أحدي الذات ، لا جزء لذاته ، ولا تجوز الشهوة في صفاته . انتهى .

ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة ، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم . وكان ذكر التنزيه أسبق ؛ لأن فيه ردعا لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمرا تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : [ ص: 363 ] ( بل له ما في السماوات والأرض ) : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله . والولادة تنافي الملكية ؛ لأن الوالد لا يملك ولده . وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والدا أو ولده أو أحدا من ذوي رحمه ، وموضوعها علم الفقه . ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له . وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعا لمالكه ، ممتثلا لما يريده منه . واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية . ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد . وأتى بلفظ ما في قوله : ( بل له ما في السماوات والأرض ) ، وإن كانت لما لا يعقل ؛ لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما . ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول " ما " جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل . فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله : قانتون ؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بـ " ما " دون " من " ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، كقوله : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) . انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ما سخركن لنا . يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى . وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعا على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما . وأما أن يقع لمن يعقل خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا . وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يئول ، فيئول قوله : سبحان ما سخركن ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :


سبحان من علقمة الفاخر



وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا . والفاعل بسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى . وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيرا لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل . ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة ; أو مقرون بالعبودية ، قاله عكرمة . وقيل : قائمون بالله . وأورد على من يقول : القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع ؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجري أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذللـه لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري .

( وكل له ) : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السماوات والأرض ، أي كل من في السماوات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا ، وهذا بعيد جدا ؛ لأن المجعول لله ولدا لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره .

و ( قانتون ) : خبر عن " كل " ، وجمع حملا على المعنى . وكل إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد . وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن . قال تعالى : ( وكل كانوا ظالمين ) ، ( وكل أتوه داخرين ) ، و ( كل في فلك يسبحون ) . وقد جاء إفراد الخبر كقوله : [ ص: 364 ] ( قل كل يعمل على شاكلته ) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية