صفحة جزء
[ ص: 228 ] ( وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى ) .

[ ص: 229 ] ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، كما قال تعالى ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) فقال تعالى : ( وهل أتاك حديث موسى ) وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي . وقيل : ( هل ) بمعنى قد ، أي : قد ( أتاك ) ، والظاهر خلاف هذا ؛ لأن السورة مكية . والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا . وقيل : إنه استفهام معناه النفي ، أي : ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى ، ونحن الآن قاصون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه - عليه السلام - لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له ، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره ، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته حامل فلا يدري أليلا تضع أم نهارا ، فسار في البرية لا يعرف طرقها ، فألجأه [ ص: 230 ] المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور . قيل : كان رجلا غيورا يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا لئلا ترى امرأته ، فأضل الطريق .

قال وهب : ولد له ابن في الطريق ، ولما صلد زنده ( رأى نارا ) . والظاهر أن ( إذ ) ظرف للحديث لأنه حدث . وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفا لمضمر ، أي : ( نارا ) كان كيت وكيت ، وأن تكون مفعولا لأذكر ( امكثوا ) ، أي : أقيموا في مكانكم ، وخاطب امرأته وولديه والخادم . وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية ( لأهله امكثوا ) بضم الهاء وكذا في القصص ، والجمهور بكسرها ( إني آنست ) ، أي : أحسست ، والنار على بعد لا تحس إلا بالبصر ، فلذلك فسره بعضهم برأيت ، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول : آنست من فلان خيرا . وقال الزمخشري : الإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء ، والإنس لظهورهم ، كما قيل الجن لاستتارهم . وقيل : هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس ، فكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعل ، ولم يقطع فيقول : إني آتيكم ، لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى . والظاهر أنه رأى نورا حقيقة .

وقال الماوردي : كانت عند موسى ( نارا ) وكانت عند الله نورا . قيل : وخيل له أنه نار . قيل : ولا يجوز هذا ؛ لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ولفظة ( على ) هاهنا على بابها من الاستعلاء ، ومعناه أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى :


وبات على النار الندى والمحلق



وقال ابن الأنباري : على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء ، وذكر الزجاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء ، وانتصب ( هدى ) على أنه مفعول به على تقدير محذوف ، أي : ذا ( هدى ) أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق . وقيل : ( هدى ) في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد ، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق .

والضمير في ( أتاها ) عائد على النار ، أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب ، قاله ابن عباس . وقيل : سمرة قاله عبد الله . وقيل : عوسج قاله وهب . وقيل : عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي ، وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته ، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة ، ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و ( نودي ) وهو تكليم الله إياه . وقرأ الجمهور : ( إني ) بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين . و ( أنا ) مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب ، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : أني بفتح الهمزة ، والظاهر أن التقدير بأني ( أنا ربك ) . وقال ابن عطية : على معنى لأجل إني أنا ربك فاخلع نعليك ، و ( نودي ) قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي :


ناديت باسم ربيعة بن مكدم     إن المنوه باسمه الموثوق



انتهى . وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة ، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلا بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال : لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز ، قالوا : ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري ؛ لأنه ينافي في التكليف ، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع . وقيل : كانتا من [ ص: 231 ] جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما . وفي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت " . قال : هذا حديث غريب ، والكمة القلنسوة الصغيرة ، وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والكلبي والضحاك . وقيل : كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما لبيان بركة الوادي المقدس ، وتمس قدماه تربته وروي أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي . و ( المقدس ) المطهر و ( طوى ) اسم علم عليه فيكون بدلا أو عطف بيان .

وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منونا . وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا . وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون . وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون . وقرأ عيسى بن عمر والضحاك " طاوي اذهب " فمن نون فعلى تأويل المكان ، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولا عن فعل نحو زفر وقثم ، أو أعجميا أو على معنى البقعة ، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة . وقال الحسن : ( طوى ) بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه ؛ وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره ، فكذلك الطوى على هذه القراءة . وقال قطرب ( طوى ) من الليل ، أي : ساعة ، أي : قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل ، فلحق الوادي تقديس محدد ، أي : ( إنك بالواد المقدس ) ليلا . قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره ، وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة .

وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية ( وإنا ) والألف عطفا على ( إني أنا ربك ) لأنهم كسروا ذلك أيضا ، والجمهور ( وأنا اخترتك ) بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه . وقرأ أبي ( وأني ) بفتح الهمزة وياء المتكلم ( اخترتك ) بتاء عطفا على ( إني أنا ربك ) ومفعول ( اخترتك ) الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك . والظاهر أن ( لما يوحى ) من صلة استمع وما بمعنى الذي .

وقال الزمخشري وغيره : ( لما يوحى ) للذي يوحى أو للوحي ، فعلق اللام باستمع أو باخترتك . انتهى . ولا يجوز التعليق باخترتك ؛ لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني .

وقال أبو الفضل الجوهري : لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه : ( استمع لما يوحى ) وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفا . وقال وهب : أدب الاستماع : سكون الجوارح ، وغض البصر ، والإصغاء بالسمع ، وحضور العقل ، والعزم على العمل . وذلك هو الاستماع لما يحب الله ، وحذف الفاعل في ( يوحى ) للعلم به ويحسنه كونه فاصلة ، فلو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة ، والموحى قوله ( إني أنا الله ) إلى آخره معناه وحدني كقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) إلى آخر الجمل ، جاء ذلك تبيينا وتفسيرا للإبهام في قوله ( لما يوحى ) . وقال المفسرون ( فاعبدني ) هنا وحدني كقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) معناه ليوحدون ، والأولى أن يكون ( فاعبدني ) لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة ، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالضلالة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة ، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل ، أي : ليذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي ، أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار ، أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول ، أي لأن أذكرك بالمدح والثناء [ ص: 232 ] وأجعل لك لسان صدق أو لأن تذكرني خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر ، أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به ، كما قال ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) واللام على هذا القول مثلها في قوله ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " .

قال الزمخشري : وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ذكرها " . ومن يتمحل له يقول : إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله ، أو بتقدير حذف المضاف ، أي : لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله - عز وجل - في الحقيقة . انتهى . وفي الحديث بعد قوله : " فليصلها إذا ذكرها " قوله " إذ لا كفارة لها إلا ذلك " ثم قرأ ( وأقم الصلاة لذكري ) . وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء : ( للذكرى ) بلام التعريف وألف التأنيث ، فالذكرى بمعنى التذكرة ، أي : لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها . وقرأت فرقة لذكرى بألف التأنيث بغير لام التعريف . وقرأت فرقة : للذكر .

ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء ، فقال ( إن الساعة آتية ) وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثوابا وإما عقابا . وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد ( أخفيها ) بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها ، أي : إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر ، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب : خفيت الشيء ، أي : أظهرته . وقال الشاعر :


خفاهن من إيقانهن كأنما     خفاهن ودق من عشي مجلب



وقال آخر :


فإن تدفنوا الداء لا نخفه     وإن توقدوا الحرب لا نقعد



ولام ( لتجزى ) على هذه القراءة متعلقة بأخفيها ، أي : أظهرها ( لتجزى ) كل نفس . وقرأ الجمهور ( أخفيها ) بضم الهمزة وهو مضارع أخفى بمعنى ستر ، والهمزة هنا للإزالة ، أي : أزلت الخفاء وهو الظهور ، وإذا أزلت الظهور صار للستر ، كقولك : أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة . وقال أبو علي : هذا من باب السلب ومعناه ، أزيل عنها خفاءها وهو سترها ، واللام على قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال ( إن الساعة آتية ) لتجزى . انتهى ، ولا يتم ذلك إلا إذا قدرنا ( أكاد أخفيها ) جملة اعتراضية ، فإن جعلتها في موضع الصفة لـ ( آتية ) فلا يجوز ذلك على رأي البصريين ؛ لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله . وقيل : ( أخفيها ) بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان ، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر . قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد ، وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و ( أكاد ) من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا ، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها ، وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس ، بالغ في إبهام وقتها ، فقال ( أكاد أخفيها ) حتى لا تظهر ألبتة ، ولكن لا بد من ظهورها . وقالت فرقة ( أكاد ) بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها ، وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم . قال أبو مسلم : ومن أمثالهم : لا أفعل ذلك ، ولا أكاد ، أي : لا أريد أن أفعله . وقالت فرقة : خبر كاد محذوف تقديره ( أكاد ) أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابئ البرجمي :

[ ص: 233 ]

هممت ولم أفعل وكدت وليتني     تركت على عثمان تبكي حلائله



أي وكدت أفعل . وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس . وقالت فرقة : معناه ( أكاد أخفيها ) من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس .

ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي : من تلقائي ومن عندي . وقالت فرقة ( أكاد ) زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها ، وروي هذا المعنى عن ابن جبير ، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى ( لم يكد يراها ) وبقول الشاعر وهو زيد الخيل :


سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه     فما أن يكاد قرنه يتنفس



وبقول الآخر :


وأن لا ألوم النفس مما أصابني     وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح



ولا حجة في شيء من هذا . وقال الزمخشري : ( أكاد أخفيها ) فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به . وقيل : معناه ( أكاد أخفيها ) من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح . والذي غرهم منه أن في مصحف أبي ( أكاد أخفيها ) من نفسي وفي بعض المصاحف ( أكاد أخفيها ) من نفسي فكيف أظهركم عليها . انتهى . ورويت هذه الزيادة أيضا عن أبي ، ذكر ذلك ابن خالويه . وفي مصحف عبد الله ( أكاد أخفيها ) من نفسي فكيف يعلمها مخلوق . وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : كدت أخفيه من نفسي ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره . وقال الشاعر :


أيام تصحبني هند وأخبرها     ما كدت أكتمه عني من الخبر



وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، والضمير في ( أخفيها ) عائد على ( الساعة ) و ( الساعة ) يوم القيامة بلا خلاف ، والسعي هنا العمل . والظاهر أن الضمير في ( عنها ) و ( بها ) عائد على الساعة . وقيل : على الصلاة . وقيل ( عنها ) عن الصلاة و ( بها ) ، أي : بالساعة ، وأبعد جدا من ذهب إلى أن الضمير في ( عنها ) يعود على ما تقدم من كلمة ( لا إله إلا أنا فاعبدني ) .

والظاهر أن الخطاب في ( فلا يصدنك ) لموسى - عليه السلام - ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة ، فينبغي أن يكون لفظا وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه ، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لفظا ولأمته معنى .

وقال الزمخشري : فإن قلت : العبارة أنهى من لا يؤمن عن صد موسى ، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق . قلت : فيه وجهان .

أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب .

والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا . المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه ، فكان ذكر المسبب دليلا على السبب كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ( فتردى ) يجوز أن يكون منصوبا على جواز النهي وأن يكون مرفوعا ، أي : فأنت تردى . وقرأ يحيى ( فتردى ) بكسر التاء .

( وما تلك بيمينك يا موسى ) هو تقرير مضمنه التنبيه ، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة ، ويتقرر في [ ص: 234 ] نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة و ( ما ) استفهام مبتدأ و ( تلك ) خبره و ( بيمينك ) في موضع الحال كقوله ( وهذا بعلي شيخا ) والعامل اسم الإشارة . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ( تلك ) اسما موصولا صلته بيمينك ، ولم يذكر ابن عطية غيره ، وليس ذلك مذهبا للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون ، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولا حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك ؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفا كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك ؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى - عليه السلام - استئناس عظيم وتشريف كريم .

( قال هي عصاي ) . وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري ( عصي ) بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم . وقرأ الحسن ( عصاي ) بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضا وأبي عمرو معا ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين . وعن أبي إسحاق والجحدري ( عصاي ) بسكون الياء . ( أتوكأ عليها ) ، أي : أتحامل عليها في المشي والوقوف ، وهذا زيادة في الجواب كما جاء " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ، في جواب من سأل أنتوضأ بماء البحر ؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج ؟ قال : " نعم ولك أجر " .

وحكمة زيادة موسى - عليه السلام - رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى ، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر :


وأملى عتابا يستطاب فليتني     أطلت ذنوبا كي يطول عتابه



وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع ، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلا في قوله ( أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ) وإجمالا في قوله ( ولي فيها مآرب أخرى ) . وقيل : ( أتوكأ عليها ) جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال ( هي عصاي ) قال له تعالى فما تصنع بها ؟ قال : ( أتوكأ عليها ) الآية . وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله ( وما تلك ) وبقوله ( بيمينك ) عما يملكه ، فأجابه عن ( وما تلك ) ؟ بقوله ( هي عصاي ) وعن قوله ( بيمينك ) بقوله ( أتوكأ عليها وأهش ) إلى آخره انتهى . وفي التحقيق ليس قوله ( بيمينك ) بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله ( أتوكأ عليها ) ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله ( وأهش ) .

وقرأ الجمهور ( وأهش ) بضم الهاء والشين المعجمة ، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء ، والمفعول محذوف وهو الورق . قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال ، أي : أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما ، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولان . انتهى . وقرأ الحسن وعكرمة : وأهس بضم الهاء والسين غير معجمة ، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات . ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأهس بضم الهمزة من أهس رباعيا ، وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد ( وأهش ) بضم الهاء وتخفيف الشين ، قال : ولا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى العامة ، لكن فر من قراءته من التضعيف ؛ لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي . فيكون كتخفيف ( ظلت ) ونحوه . وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ ( وأهش ) بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعيا قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته . ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى ، فقال : ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ؛ ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة [ ص: 235 ] كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى ، المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها ، وقالوا اسم العصا نبعة انتهى .

وقرأت فرقة ( غنمي ) بسكون النون وفرقة ( على غنمي ) بإيقاع الفعل على الغنم .

والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه .

وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب . وكانت تقيه الهوام ، ويرد بها غنمه ، وإن بعدوا وهذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية ، هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع ، وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى - عليه السلام - وعامل المآرب وإن كان جمعا معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ، ولم يقل آخر رعيا للفواصل ، وهي جائز في غير الفواصل . وكان أجود وأحسن في الفواصل .

وقرأ الزهري وشيبة : ( مارب ) بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ، ويعني - والله أعلم - بغير همز محقق ، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين .

( قال ألقها ) الظاهر أن القائل هو الله تعالى ، ويبعد قول من قال : يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى ( ألقها ) اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر :


فألقت عصاها واستقر بها النوى



وإذا هي التي للمفاجأة ، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى ، والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله ( فلما رآها تهتز كأنها جان ) وبين كونها ثعبانا ؛ لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعبانا ، أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها . قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فما وبين لحييها أربعون ذراعا .

وعن ابن عباس : انقلبت ثعبانا تبتلع الصخر والشجر ، والمحجن عنقا وعيناها تتقدان ، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول . ومعنى ( تسعى ) تنتقل وتمشي بسرعة ، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت ، إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقي تكاليف النبوة ومشاق الرسالة ، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ، ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبرا ولم يعقب . وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها . وقيل : لما قال له الله ( لا تخف ) بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له : خذ مرة وثانية حتى قيل له ( خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) فأخذها في الثالثة ؛ لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به ، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير ، كالركبة والجلسة ، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة . وقيل : سير الأولين . وقال الشاعر :


فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها     فأول راض سيرة من يسيرها



واختلفوا في إعراب ( سيرتها ) فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل ( واختار موسى قومه ) [ ص: 236 ] يعني : إلى سيرتها . قال : ويجوز أن يكون بدلا من مفعول ( سنعيدها ) . وقال هذا الثاني أبو البقاء ، قال : بدل اشتمال ، أي : صفتها وطريقتها . وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : ( سنعيدها ) في طريقتها الأولى ، أي : في حال ما كانت عصا انتهى . وسيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بواسطة في ، ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولا من عاده بمعنى عاد إليه . ومنه بيت زهير :


وعادك أن تلاقيها عداء



فيتعدى إلى مفعولين انتهى . وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي . قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون ( سنعيدها ) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا ، ونصب ( سيرتها ) بفعل مضمر ، أي : تسير ( سيرتها الأولى ) يعني ( سنعيدها ) سائرة ( سيرتها الأولى ) حيث كنت تتوكأ عليها ، ولك فيها المآرب التي عرفتها . انتهى .

والجناح حقيقة في الطائر والملك ، ثم توسع فيه فأطلق على اليد ، وعلى العضد ، وعلى جنب الرجل . وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة ، وسمي جناح الطائر ؛ لأنه يجنح به عند الطيران ، ولما كان المرعوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه ، أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ؛ ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد . والمراد إلى جنبك تحت العضد . ولهذا قال ( تخرج ) فلو لم يكن دخول لم يكن خروج ، كما قال في الآية الأخرى ( وأدخل يدك في جيبك تخرج ) وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم ، وإنما يترتب على الإخراج ، والتقدير ( واضمم يدك إلى جناحك ) تنضم وأخرجها ( تخرج ) فحذف من الأول وأبقى مقابله ، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو ( اضمم ) لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى .

( تخرج بيضاء من غير سوء ) قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس ، وكان آدم اللون وانتصب ( بيضاء ) على الحال ، والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة ، وكما كنوا عن جذيمة ، وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه . وقوله ( من غير سوء ) متعلق ببيضاء ، كأنه قال ابيضت ( من غير سوء ) . وقال الحوفي : ( من غير سوء ) في موضع النعت لبيضاء ، والعامل فيه الاستقرار انتهى . ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس ؛ لأنه لو اقتصر على قوله ( بيضاء ) لأوهم أن ذلك من برص أو بهق . وانتصب ( آية ) على الحال ، وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد . وأجاز الزمخشري أن يكون منصوبا على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال ، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ ؛ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ، ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه ، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون ( آية ) بدلا من ( بيضاء ) وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في ( بيضاء ) ، أي : تبيض ( آية ) . وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها ( آية ) أو آتيناك ( آية ) .

واللام في ( لنريك ) قال الحوفي متعلقة باضمم ، ويجوز أن تتعلق بتخرج . وقال أبو البقاء : تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه ( آية ) ، أي : دللنا بها ( لنريك ) . وقال الزمخشري : ( لنريك ) ، أي : خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض ( آياتنا الكبرى ) أو ( لنريك ) بهما ( الكبرى ) من ( آياتنا ) أو ( لنريك من آياتنا الكبرى ) فعلنا ذلك ، ونعني أنه جاز أن يكون مفعول ( لنريك ) الثاني ( الكبرى ) أو يكون ( من آياتنا ) في موضع المفعول الثاني . وتكون ( الكبرى ) صفة لآياتنا على حد ( الأسماء الحسنى ) و ( مآرب أخرى ) بجريان مثل هذا [ ص: 237 ] الجمع مجرى الواحدة المؤنثة ، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء . والذي نختاره أن يكون ( من آياتنا ) في موضع المفعول الثاني ، و ( الكبرى ) صفة لآياتنا ؛ لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته تعالى كلها هي الكبر ؛ لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه ( الكبرى ) . وإذا جعلت ( الكبرى ) مفعولا لم تتصف الآيات بالكبر ؛ لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل ، وأيضا إذا جعلت ( الكبرى ) مفعولا فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معا ؛ لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما ، فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما ؛ لأن كلا منهما فيها معنى التفضيل . ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا ؛ لأنه ذكر عقيب اليد ( لنريك من آياتنا الكبرى ) لأنه جعل ( الكبرى ) مفعولا ثانيا ( لنريك ) وجعل ذلك راجعا إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء ، وقد ضعف قوله هذا ؛ لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون ، وأما العصا ففيها تغيير اللون ، وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مرارا فكانت أعظم من اليد .

ولما أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولا من عنده تعالى وعلل حكمة الذهاب إليه بقوله ( إنه طغى ) وخص فرعون وإن كان مبعوثا إليهم كلهم ؛ لأنه رأس الكفر ومدعي الإلهية وقومه تباعه . قال وهب بن منبه : قال الله لموسى - عليه السلام - اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي . وقل له قولا لينا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل . قال : فسكت موسى - عليه السلام - سبعة أيام . وقيل : أكثر ، فجاءه ملك فقال أنفذ ما أمرك ربك .

التالي السابق


الخدمات العلمية