صفحة جزء
( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) : لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم ، كانوا أحق بتعظيمها ، لأنها من مآثر أبيهم . ولوجه آخر من إظهار فضلها ، وهو كونها مثابة للناس وأمنا ، وأن فيها مقام إبراهيم ، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها ، وجعلها محلا للطائف والعاكف والراكع والساجد ، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها . والبيت هنا : الكعبة ، على قول الجمهور . وقيل : المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة ; لأنه وصفه بالأمن ، وهذه صفة جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط . ويجوز إطلاق البيت ، ويراد به كل الحرم . وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به ، ولا تطلق على كل الحرم . والتاء في مثابة " للمبالغة ، لكثرة من يثوب إليه ، قاله [ ص: 380 ] الأخفش ، أو لتأنيث المصدر ، أو لتأنيث البقعة ، كما يقال مقام ومقامة ، قال الشاعر :


ألم تر أن الأرض رحب فسيحة فهل يعجزني بقعة من بقاعها



ذكر رحبا على مراعاة المكان ، وأنث فسيحة على اللفظ . وقرأ الأعمش وطلحة : " مثابات " على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل :


مثابا لأفناء القبائل كلها     تخب إليها اليعملات الطلائح



ويروى : الذوابل . ووجه قراءة الجمع أنه مثابة لكل من الناس ، لا يختص به واحد منهم ، سواء العاكف فيه والباد . و " مثابة " ، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب ، أي يحجونه في كل عام فهم يتفرقون ، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم ، ولا يقضي أحد منهم وطرا ، وقال الشاعر :


جعل البيت مثابا لهم     ليس منه الدهر يقضون الوطر



وقال ابن عباس : معاذا وملجأ . وقال قتادة والخليل : مجمعا . وقال بعض أهل اللغة ، فيما حكاه الماوردي : أي مكان إثابة : واحدة من الثواب ، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالا منه . والألف واللام في قوله للناس : إما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان ، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك . وجعلنا هنا بمعنى صيرنا ، فمثابة مفعول ثان . وقيل : جعل هنا بمعنى : خلق أو وضع ، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنة ، إذ هو في موضع الصفة . وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا ، أي لأجل الناس . والأمن : مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن ، أو على حذف مضاف ، أي ذا أمن ، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازا ، أي آمنا ، كما قال تعالى : ( اجعل هذا البلد آمنا ) ، وجعله آمنا ، اختلفوا : هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ فمن قال : إنه في الدنيا ، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون ، ويغير بعضهم على بعض حول مكة ، وهي آمنة من ذلك ، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ; لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة ، وجعلها أمنا للناس والطير والوحش ، إلا الخمس الفواسق ، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما من أحدث حدثا خارج الحرم ثم أتى الحرم ، ففي أمنه من أن يهاج ، فيه خلاف مذكور في الفقه . وقيل معناه : إنه آمن لأهله ، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة فلا يروعه أحد . وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده . ومن قال هذا الأمن في الآخرة ، قيل من المكر عند الموت . وقيل : من عذاب النار . وقيل : من بخس ثواب من قصده ، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت . وقيل : يشمل البيت والحرم . وقال في ري الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب . والظاهر أن قوله : وأمنا ، معطوف على قوله : مثابة ، ويفسر الأمن بما تقدم ذكره . وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر ، التقدير : واجعلوه آمنا ، أي جعلناه مثابة للناس ، فاجعلوه آمنا لا يتعدى فيه أحد على أحد . فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل ، وكان البيت محرما بحكم الله ، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر ، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل ، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية ، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات .

التالي السابق


الخدمات العلمية